لم يكن خبر غرق 51 شابًا سودانيًا في طريقهم إلى اليونان مجرد حادثة عابرة، بل كان جرس إنذار مدوٍ هزّ القلوب وأيقظ الأعين على مأساة تتكرر كل يوم. هؤلاء الشباب، القادمون من قرى شرق النيل (العسيلات، الدبيبة، العيلفون، السديرة الحفرة)، لم يكونوا يبحثون عن مغامرة عابرة، بل كانوا يفتشون عن حياة كريمة فقدوها في وطنهم. لكن البحر، كعادته، ابتلعهم في صمت، ليترك وراءه أسرًا مكلومة وأطفالًا يتامى وأمهات يحملن صور أبنائهن على صدورهن كجراح مفتوحة لا تلتئم.
لماذا يترك الشباب أوطانهم؟
حين نبحث في دوافع هؤلاء الشباب، لا نجدها في الطموح وحده، بل في المعاناة اليومية:
• اقتصاد منهك يسرق فرص العمل ويترك الشاب عاطلًا بين الجدران.
• صراعات وحروب تحوّل الحياة إلى جحيم لا يُطاق.
• مدارس متهالكة، جامعات تفتقد الإمكانيات، ومستشفيات لا تُلبي الحد الأدنى من العلاج.
• وأخيرًا، الوهم الأوروبي الذي يُسوّق للشباب صورة وردية عن حياة مليئة بالعدالة والكرامة والثراء، فيصدقونها، فيسلمون أجسادهم للمجهول.
عندما يتحول الحلم إلى كابوس
من ينجو من البحر، يواجه برًّا أكثر قسوة:
• لغة غريبة وثقافة مختلفة تجعله غريبًا حتى عن نفسه.
• أعمال شاقة في المزارع أو المصانع أو المطاعم، بأجور لا تكفي قوت يومه.
• استغلال من أرباب العمل أو من عصابات المخدرات وتجارة البشر.
• خوف دائم من الشرطة، تهديد بالترحيل، أو عيش في الظل بلا هوية.
• عزلة قاتلة، حيث لا أهل ولا أصدقاء ولا حضن أم يخفف غربته.
الموت البطيء
الهجرة غير الشرعية ليست مجرد خطر الموت غرقًا، بل هي أيضًا موت بطيء: موت للأحلام، موت للكرامة، موت للانتماء. كثير من الشباب يعود بعد سنوات بخفي حنين، منهكًا، محطمًا، وقد ضاع عمره بين أوهام لم تتحقق.
كيف نوقف نزيف الشباب؟
لا يكفي أن نبكي ضحايانا ونودعهم في مقابر الغربة. لا بد أن نعمل على إغلاق هذا الطريق المظلم عبر:
- بناء فرص عمل داخل الوطن، حتى يجد الشاب ما يسد رمقه بكرامة.
- إصلاح التعليم والتدريب ليفتح أبواب المستقبل بدل أن يغلقها.
- حملات توعية صادقة تكشف للشباب حقيقة أوروبا بعيدًا عن الأوهام.
- شراكات دولية تفتح أبواب الهجرة القانونية والآمنة.
- مسؤولية جماعية: الدولة، المجتمع، الأسر، حتى لا يُترك الشاب وحيدًا أمام خيار البحر.
خاتمة مؤلمة
إن الهجرة غير الشرعية ليست بحثًا عن الفردوس، بل هي هروب نحو السراب. هي قارب صغير محمّل بأحلام كبيرة، يغرق في بحر لا يعرف الرحمة. كل شاب يركب هذا القارب، يترك وراءه أمًا تبكي، وأبًا يتحسر، ووطنًا يفقد جزءًا من مستقبله.
فلنواجه الحقيقة: إن أردنا أن نوقف رحيل أبنائنا إلى المجهول، فعلينا أن نبني لهم فردوسهم هنا، على أرضهم، حيث لا يهددهم البحر ولا تسحقهم الغربة.
وإنا إذ نكتب عن هذه المأساة، لا نملك إلا أن نرفع أكف الضراعة إلى الله أن يتغمد شبابنا الذين ابتلعهم البحر برحمته الواسعة، وأن يجعل قبورهم نورًا وطمأنينة، وأن يلهم أسرهم وذويهم الصبر والسلوان. رحم الله شهداء الغربة، وأعاد إلينا وعيًا يجعلنا أكثر حرصًا على حياة أبنائنا ومستقبل وطننا. saeed.abuobida5@gmail.com