في مارس 2015، وخلال القمة الاقتصادية العربية في شرم الشيخ، تقدّم السودان بمبادرة متكاملة لتعزيز الأمن الغذائي العربي، استندت إلى رؤية استراتيجية أعدّها فريق من الخبراء بعد أشهر من التحضير والورش الفنية بمشاركة وزارات الري والزراعة والمالية والاستثمار. المبادرة مثّلت حينها إشارة جادة لإمكانات السودان الكبيرة في هذا الملف الحيوي.
دعمت الخطوة دراسة كلف بها الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي شركة ألمانية متخصصة لتقدير حجم الفجوة الغذائية في العالم العربي ودور السودان المحتمل في سدها. لكن، ورغم اكتمال الدراسة، غابت المتابعة العملية، ما طرح تساؤلات حول آليات العمل العربي المشترك وقدرته على استثمار الموارد المتاحة بالنظر للحالة السودانية.
مع ذلك، برزت خلال السنوات الأخيرة مبادرات عملية داخل السودان لمواجهة التحديات المتزايدة، منها برنامج (SASAS) لتحسين إنتاج الذرة المقاومة للجفاف، ومبادرة استوديو الابتكار من أجل الصمود (ISR) بدعم دولي لتعزيز الحلول المحلية، إضافة إلى برنامج دعم السياسات الاستراتيجية بقيادة (IFPRI) الذي وفّر بيانات دقيقة لصانعي القرار.
هذه الجهود تعكس توجهًا عمليًا من الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين لترسيخ مكانة السودان كمصدر موثوق للأمن الغذائي العربي.
يتجاوز التكامل الزراعي بين السودان ومصر كونه تعاونًا ثنائيًا، إذ يمثل جزءًا من رؤية إقليمية أوسع لتحقيق الأمن الغذائي المستدام في حوض النيل والعالم العربي. فالسودان بما يملكه من أراضٍ خصبة وموارد مائية، هو العمق الاستراتيجي للأمن الغذائي المصري والعربي، بينما تمتلك مصر خبرات طويلة في الاصلاح الزراعي والتخطيط التنموي .
وفي خطوة عملية قوبلت بالتفاؤل، أعلن مؤخرًا المهندس محمود هندي، رئيس جمعية رجال الأعمال المصريين السودانيين، تخصيص السودان لمساحة مئة فدان على ضفاف النيل لمشروعات زراعية كبرى بدعم فني ومالي من مصر ومنظمات دولية مثل الفاو.
كما أكد وزير الزراعة بولاية نهر النيل صلاح علي محمد انطلاق مشروع زراعة الأرز على مساحة 120 فدانًا بعطبرة، بتمويل من الفاو وصندوق نقل التقانة، مشيدًا بقدرات الأرز في تنويع الغذاء وتعزيز الأمن الغذائي.
هذه الخطوات تعكس سياسة تكاملية بين السودان ومصر تعكس توظف الموارد الطبيعية والخبرات المشتركة لصالح نهضة زراعية مستدامة، تركز على تحسين إنتاجية صغار المزارعين وتطوير البنية التحتية الزراعية، بما يعزز استدامة الموارد ويضاعف العائد الاقتصادي.
كذلك لا يمكن فصل مشروعات التكامل الزراعي عن واقع حوض النيل بعد اكتمال سد النهضة. فإثيوبيا تمتلك قدرات كهرومائية تؤثر في تنظيم تدفقات المياه، بينما يوفر السودان أراضي زراعية واسعة لزراعة موسمية متعددة، وتملك مصر خبرة استراتيجية في الإدارة الزراعية والتدريب.
إذا ما توصلت الدول الثلاث إلى تفاهمات واضحة، يمكن تحويل سد النهضة من بؤرة توتر إلى فرصة تعاون إقليمي غير مسبوق ، تقوم على منظومة متكاملة لإدارة المياه والطاقة والأرض، ما يعزز الأمن الغذائي والتنمية المستدامة، ويجعل من حوض النيل نموذجًا للتكامل والاستقرار.
تأتي هذه الجهود في ظل فاتورة غذائية عربية تتجاوز 44 مليار دولار سنويًا، ونسب اكتفاء ذاتي في الحبوب تقل عن 50%، مع تراجع الإنتاج بفعل التصحر وتغير المناخ ذلك بحسب المنظمة العربية للتنمية الزراعية (AOAD). ويرى خبراء الاقتصاد أن استثمار الموارد الزراعية السودانية، مقرونًا بالخبرة المصرية والدعم المالي العربي، هو المسار الأمثل لتقليل الاعتماد على الأسواق العالمية المتقلبة والمتأثرة بالنزاعات والتي تعاني من ضعف سلاسل الإمداد.
هذه الاتجاهات تسهم في تحقيق جملة من الأهداف يتطلب ذلك تعزيز التنسيق السياسي والإداري بين دول حوض النيل. بجانب زيادة الاستثمارات في البنية التحتية الزراعية بالسودان. علاوة علي تمويل عربي ودولي لمشروعات الأمن الغذائي.. وتصميم برامج تدريبية مشتركة لنقل الخبرات والتقنيات الحديثة، بالإضافة لسياسات زراعية مرنة تراعي التغيرات المناخية وتستند إلى شراكة بين الحكومات والمجتمع المدني والمراكز البحثية .
بحسب #وجه_الحقيقة ما يشهده التعاون الزراعي بين السودان ومصر اليوم يمثل تحولًا ممكنا من التعاون الثنائي إلى شراكة إقليمية استراتيجية، تضع الأمن الغذائي في قلب التنمية والاستقرار بحوض النيل والعالم العربي. وهو بذلك يقدم نموذجًا عمليًا لكيفية تحويل الموارد والتحديات إلى فرص، تضمن مستقبلًا أكثر أمنًا وازدهارًا لشعوب المنطقة.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 3 سبتمبر 2025م Shglawi55@gmail.com