الخرطوم ليست مجرد جغرافيا، إنها ذاكرة وطن، مدينة نُسجت من عرق الأجداد وكفاح الأحفاد، وانبعثت من رماد النيل والحرب، ومضت شاهدة على أعظم محطات تاريخ السودان الحديث. واليوم، ونحن نلملم جراحها من ركام تمرد ظنّ أنه قادر على كسر إرادتها، نواجه سؤالًا مصيريًا: كيف نعيد بناء الخرطوم؟
البعض يرى أن الوقت لم يحن بعد للعودة، بحجة تدهور الخدمات، وقلة السكان، وغياب الاستقرار. لكن الحقيقة أن الخرطوم لن تُبنى إلا بأبنائها، ولن تستعيد عافيتها إن لم تبادر الكتلة الوطنية بالعودة والعمل والبذل.
لا أمن بلا وجود، ولا خدمات بلا مواطنين
من الأخطاء الشائعة انتظار الدولة لتفعل كل شيء بمفردها. الخدمات العامة – من كهرباء ومياه وصحة وتعليم – لا تعود بكامل طاقتها في مدينة خاوية، بل تتطلب كثافة سكانية ومشاركة مجتمعية.
أما الأمن، فهو ليس فقط دور الشرطة والجيش، بل يبدأ من وجود الناس في بيوتهم، ومبادرتهم بتنظيم أحيائهم، وإنارة طرقاتهم، ومراقبة محيطهم. الفراغ هو ما يغري المجرمين، والفراغ هو ما يمنح الشعور بعدم الأمان.
العودة بداية الإعمار
الخرطوم التي نحلم بها لن تأتي بالحنين وحده، ولا بالندب على الأطلال. بل بالعودة الجماعية، والعمل الدؤوب، والتخلي عن السلوكيات القديمة التي أسهمت في ترهل المدينة وتدهورها قبل الحرب.
نحن بحاجة لثورة وعي، تبدأ من الفرد وتنتهي بالمؤسسة. بحاجة إلى مجتمع يعيد النظر في عاداته الاستهلاكية، ويحترم القانون، ويؤمن بالنظافة والنظام، ويعيد بناء المدارس والمراكز الصحية حتى بجهود ذاتية، فلا نهضة دون مواطن مبادر، ولا دولة دون مجتمع مسؤول.
من دروس الحرب: لنعمل بطريقة مختلفة
الحرب فضحت هشاشة النظام الاجتماعي، وقصّرت المسافة بين المواطن والمخاطر، وأجبرتنا على التفكير في أبسط حقوقنا: الأمان، الدواء، الخبز، والماء.
لكنها أيضًا علمتنا شيئًا أعظم: أن الوطن مسؤوليتنا جميعًا، وأن الخرطوم إن ضاعت، فلن تعوضها أي مدينة أخرى.
فلنبدأ اليوم… لا نريد أن نحكي لأطفالنا يومًا أننا كنا شهودًا على دمار العاصمة ولم نفعل شيئًا.
فلنبدأ بفتح النوافذ، بتنظيف الشوارع، بإعادة الطلاء، بتسجيل الطلاب، بتعمير المساجد، بفتح العيادات…
هكذا تعود الخرطوم.