﴿فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءًۭ ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلْأَرْضِ﴾ – [الرعد: 17]
البِلادُ الآنَ لا تَقِفُ على شَفَا الانهيارِ فَحَسْب، بَلْ تُدْفَعُ دَفْعًا إلى هَاوِيَةٍ بِأَيْدٍ مَحَلِّيَّةٍ، تُـمَوِّلُهَا العُقُولُ الضَّعِيفَةُ، وَتُؤَجِّجُهَا أَلْسُنٌ حَاقِدَةٌ، وَإِعْلَامٌ مَأْجُورٌ، يُحَوِّلُ المَوَاقِفَ الوَطَنِيَّةَ إلى تُهَمٍ، وَيَصُوغُ البُطُولَةَ فِي قَامُوسِ الخِيَانَةِ.
القُوَّاتُ المُشْتَرَكَةُ، هَذِهِ الكُتْلَةُ الوَطَنِيَّةُ المُخْلِصَةُ، الَّتِي جَمَعَتْ أَبْنَاءَ السُّودَانِ مِنْ كُلِّ مَشَارِبِهِ، تُوَاجَهُ الآنَ بِحَرْبٍ مُزْدَوِجَةٍ: إِعْلَامِيَّةٍ تُشَوِّهُ، وَنَفْسِيَّةٍ تُحَبِّطُ، وَشَعْبِيَّةٍ تُغَيَّبُ بِفِعْلِ الجَهْلِ المُوَجَّهِ.
لَا تَطْعَنُوا أَبْطَالَكُم.. وَلَا تَكْسِرُوا اليَدَ الَّتِي حَمَتْكُمْ
كُلُّ جَرِيحٍ يَعُودُ مِنَ المَعْرَكَةِ حَامِلًا كَفَّهُ البَيْضَاءَ، لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُقَابَلَ بِالشَّتْمِ وَالتَّشْكِيكِ. لَا تُكَافِئُوا المُقَاتِلِينَ بِالتَّجْرِيحِ، وَلَا تُحَوِّلُوا النَّصْرَ إلى نُكْرَانٍ. إِنَّهُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، لَمْ يَبِيعُوا البُنْدُقِيَّةَ، وَلَمْ يُسَاوِمُوا عَلَى الشَّرَفِ.
إِنَّ الحَرْبَ عَلَى المُشْتَرَكَةِ لَيْسَتْ وَلِيدَةَ لَحْظَةٍ، بَلْ هِيَ خُطَّةٌ نَاعِمَةٌ تُغَذِّيْهَا عُقُولٌ فَاسِدَةٌ تُرِيدُ إِرْجَاعَ السُّودَانِ إِلَى عُصُورِ الانْقِسَامِ وَالجَهَوِيَّةِ.
مَنْ يُرِيدُ إِحْرَاقَ المَرَاكِبِ… يَضْحَكُ عَلَى الشَّعْبِ!
هُنَاكَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ إِحْرَاقَ المَرَاكِبِ يَعْنِي العُبُورَ إِلَى المُسْتَقْبَلِ، لَكِنَّهُ فِي الحَقِيقَةِ يُحَرِّقُ ذَاكِرَةَ الوَطَنِ، وَيَسْتَخِفُّ بِدِمَاءِ الشُّهَدَاءِ. يُزَوِّرُونَ المَحَاضِرَ، يُفَبْرِكُونَ الوَاقِعَ، يُسَرِّبُونَ الاجْتِمَاعَاتِ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ شِعَارَاتِ الإِصْلَاحِ!
أَيُّ إِصْلَاحٍ هَذَا الَّذِي يَبْدَأُ بِتَشْوِيهِ مَنْ دَافَعُوا عَنْكَ؟!
حُرُوبُ المُشْتَرَكَةِ.. غَائِبَةٌ عَنِ النَّشَرَاتِ!
أَيْنَ الإِعْلَامُ مِنْ خَنَادِقِ المُشْتَرَكَةِ؟ أَيْنَ عَدَسَاتُكُمْ مِنْ تِلَالِ الرِّمَالِ الَّتِي اتَّكَأَتْ عَلَيْهَا أَجْسَادُهُم؟ أَيْنَ أَصْوَاتُكُمْ حِينَ كَانُوا يَسْهَرُونَ لِئَلَّا تُبَادَ قَرْيَةٌ أَوْ تُخْتَطَفَ امْرَأَةٌ؟
تَذْكِيرٌ: يَافِطَةٌ وَاحِدَةٌ تَكْشِفُ كُلَّ شَيْءٍ!
فِي أَحَدِ المَيَادِينِ، سَقَطَتْ يَافِطَةُ ثَوْرَةِ دِيسَمْبَر، وَلَمْ يُعِدْهَا أَحَدٌ، فَتُرِكَتْ مُمَزَّقَةً تَحْتَ الأَقْدَامِ، كَأَنَّهَا تُمَثِّلُ مَصِيرَ الثَّوْرَةِ نَفْسِهَا، وَمَصِيرَ الَّذِينَ حَلِمُوا بِالتَّغْيِيرِ.
أُسَرُ الشُّهَدَاءِ مِنَ المُشْتَرَكَةِ.. لَا ذِكْرَ، لَا وَفَاءَ!
الأبناءُ ينتظرونَ أبًا لن يعود، والأمهاتُ يتَّكئن على الصبرِ وحدَهُنَّ، والزوجاتُ يربّينَ أطفالًا على صورٍ وذكريات. أسرٌ تعيشُ على الفقدِ، وتصارعُ الغلاءَ، لا تأمينَ، لا تعويضَ، لا حتى كَلمةُ شُكرٍ.
تَقْلِيلُ جُهْدِ الأَبْطَالِ يُقَلِّلُ مِنَ العَزِيمَةِ فِي المِيدَانِ. وَمَنْ يُقَابِلُ الدَّمَ بِالصَّمْتِ، يُسْقِطُ نَفْسَهُ قَبْلَ أَنْ يُسْقِطَ الوَطَنَ.
كلماتٌ من القلبِ إلى القُوَّاتِ المُشْتَرَكَةِ: أنتم الحُماةُ حين نامَ الجميع، أنتم السَّاترُ الذي ظلَّ يقاومُ العواصفَ ليبقى هذا الوطنُ واقفًا.
إلى كلِّ مقاتلٍ في صفوفِ المُشتركة: شكرًا لأنك لَمْ تَخُن، شكرًا لأنك لا تزالُ تُؤمِنُ، شكرًا لأنك رفعتَ رأسَنا عاليًا في زمنٍ انحنى فيه البعض.
نحن لا نَنْسَى مَن حَفِظَ الوطنَ حين ضَاعَتْ خرائطُ الأمانِ، ولا نُنْكِرُ دَمَكَ، وإن أَنْكَرَهُ الإعلامُ.
مَلَامِحُ العَاصِمَةِ.. لِلطَّبَقَةِ النَّاعِمَةِ!
الآنَ، تُعَادُ مَلَامِحُ العَاصِمَةِ بِهُدُوءٍ مَاكِرٍ، وَكَأَنَّهَا تُفَصَّلُ لِلنُّخَبِ فَقَطْ. يُهَمَّشُ أَهْلُ الرِّيفِ، وَيُطْرَدُ أَبْنَاءُ الكَادِحِينَ.
العُنْصُرِيَّةُ لَمْ تَعُدْ كَلِمَةً.. بَلْ جُرْحٌ!
العُنْصُرِيَّةُ اليَوْمَ لَيْسَتْ كَلِمَةً، بَلْ غِلٌّ مُقِيمٌ فِي القُلُوبِ، يُمَارَسُ فِي المُؤَسَّسَاتِ، وَيُذَاعُ فِي القَنَوَاتِ.
رِسَالَتِي إِلَى السُّودَانِيِّينَ:
مَنْ يَأْتِيكَ مَجْرُوحًا… لَا تَطْعَنْهُ.
مَنْ يَأْتِيكَ بِسَلَامٍ… لَا تَكْسِرْ يَدَهُ.
مَنْ حَمَاكَ… لَا تُجَرِّدْهُ مِنْ شَرَفِهِ.
سَلَامٌ وَأَمَانٌ، فَالعَدْلُ مِيزَانٌ.
بقلم: عبيرُ نَبِيلِ مُحَمَّد
تَوقِيعٌ لَا يُنْسَى
أَنَا الرِّسَالَةُ حِينَ يَضِيعُ البَرِيدُ…
امْرَأَةٌ مِنْ حِبْرِ النَّار.