حين تمس رياح الفساد شعيرة من أعظم شعائر الإسلام ، فاعلم أن الأمر تجاوز الخطوط الحمراء، وأن الحديث خرج ترف والتلميح ليصبح واجبًا تفرضه الأمانة أمام الله وأمام الشعب.
ما دعاني للكتابة في هذا الموضوع أمران لا ثالث لهما ولا يمكن تجاهلهما:
أولهما أن قضية الفساد في ملف الحج والعمرة لم تعد همسًا في الغرف المغلقة ولا حبيسة الأدراج ، بل صارت قضية رأي عام تتناقلها المنصات وتتناقش فيها المجالس.
وثانيهما – وللأسف – أن بعض الأقلام خرجت تدافع عن المتهم الأول في هذا الملف، لا استنادًا إلى براءته ولا بحجج قانونية، بل لأنه “من الهامش”، وتحديدًا من إقليم النيل الأزرق! وكأن الجغرافيا باتت صك غفران يُسقط المحاسبة ويعطل العدل.
إن محاولة اللعب على وتر المناطقية في قضية فساد مالي هو تضليل فج للرأي العام، ومحاولة بائسة لتسييس ما يجب أن يظل في مربع النزاهة والرقابة والشفافية. فلو جاء الفساد من جوف الكعبة – أطهر البقاع – لوجب أن يُحاسب مرتكبه. فالحق لا يعرف جغرافيا، والفساد لا يتطهر بالانتماء القبلي أو المناطقي ومرجعيتنا لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطع محمد يدها ..
كنا نرجو من القائمين على أمر الحج والعمرة – وهم يحملون أمانة من أعظم الأمانات – أن يربأوا بأنفسهم عن كل شبهة، وأن يدركوا قدسية ما أوكل إليهم، لا أن يتورطوا في شُبهات تعف عنها ضمائر البسطاء الذين يجمعون أموالهم بالسنوات لأداء هذه الفريضة.
والآن، بعد كل ما نشر، تقف أمامنا أسئلة مشروعة، لا يمكن للضمير الوطني أو المهني أن يتجاوزها، وتحتاج إلى إجابات صادقة وشجاعة:-
- هل كان مجلس الحج والعمرة ملتزمًا بلائحة وزارة المالية فيما يخص السفر، والنثريات، والمخصصات؟
- هل لغياب الوزير المختص عن موسم الحج هذا العام دور في ما حدث من تجاوزات؟
- أين دور المراجع العام من هذه القضية؟ وهل تم تجاهله عمدًا، أم غُيب عن عمد؟
- وما هو موقف وزارة الشؤون الدينية والأوقاف؟ ولماذا لم تبادر بإجراء مراجعة شفافة ومعلنة؟
إننا لا نكتب للفضيحة، ولا نسعى للإساءة لأحد، لكننا نكتب لأننا نؤمن أن المال العام أمانة، ولأن شعيرة الحج ليست مجالًا للتربح أو التلاعب، بل ميدانًا للخشية والتجرد من الدنيا.
ويبقى المبدأ ثابتًا:
“من أينما جاء الفساد، فليُحاسب صاحبه.” وما لم يحدث ذلك، فإننا نكون قد خذلنا أمانة الكلمة، ومسؤولية الرقابة، واحترام الشعيرة. ولن يتوقف مدادنا حتى يتبين لنا خيط البراءة أبيضاً من خيط الفساد الأسود وشبهاته..