منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023، دخلت العلاقات السودانية السعودية مرحلة دقيقة تتقاطع فيها الحسابات الجيوسياسية مع الهواجس الأمنية والمصالح الاقتصادية. ورغم ما يظهر من حياد سعودي معلن ودعوات متكررة للحوار، فإن تعقيدات الميدان السوداني وضغط المصالح الحيوية على ضفّة البحر الأحمر، يفرضان على الرياض خيارات أكثر حساسية مما يبدو على السطح.
الموقف السعودي: حياد محسوب أم انحياز مؤجل؟
في مستهل الحرب، اتسم الموقف السعودي بالاتزان، حيث دعت الرياض إلى وقف فوري لإطلاق النار، مع التزام الحياد الظاهري في خطابها السياسي. لم تُبدِ السعودية انحيازًا لطرف على حساب الآخر، مدركة أن الصراع السوداني ليس مجرد مواجهة داخلية، بل ساحة مفتوحة لتنافس إقليمي ودولي قد يمتد أثره إلى داخل حدودها الجيوسياسية.
وسرعان ما تقدّمت السعودية، إلى جانب الولايات المتحدة، لرعاية مفاوضات جدة بين الجيش والدعم السريع. ورغم تعثر هذه المفاوضات وعدم تحقيقها اختراقًا فعليًا، فإنها كشفت عن رغبة سعودية في لعب دور الوسيط المؤثر، مع الحفاظ على هامش مناورة يتيح لها إعادة التموضع متى اقتضت مصلحتها الاستراتيجية.
البحر الأحمر تحت المراقبة: أمن قومي لا يحتمل المجازفة
يشكل السودان بالنسبة للرياض أكثر من مجرد جار إفريقي؛ إنه بوابة متقدمة على ساحل البحر الأحمر، المنطقة التي تعتبرها المملكة امتدادًا مباشرًا لأمنها القومي. فسواحل السودان التي تمتد لأكثر من 700 كيلومتر تقابل الموانئ السعودية مباشرة، وتشكل عقدة استراتيجية في شبكة الملاحة والطاقة والتجارة الإقليمية.
تخشى السعودية من احتمالين كارثيين:
سقوط السواحل السودانية في قبضة مليشيا منفلتة أو قوة مرتهنة لأطراف خارجية، ما يهدد بتحولها إلى بؤر لتهريب السلاح والذهب والبشر.
توسع نفوذ خصومها الإقليميين مثل إيران أو روسيا، من خلال دعمهم لقوى ميدانية مثل قوات الدعم السريع، التي أبدت انفتاحًا على شراكات مقلقة بالنسبة للرياض.
الاقتصاد في مرمى النار: مصالح كبيرة على المحك
تُعد السعودية من أكبر المستثمرين في السودان، وخصوصًا في القطاعات الزراعية والحيوانية. تستند هذه الاستثمارات إلى رؤية استراتيجية للأمن الغذائي، حيث تعتمد الرياض على السودان كمورد رئيسي للحوم والمنتجات الزراعية.
إلا أن الحرب تهدد هذه المصالح، سواء بتدمير البنية التحتية، أو عبر تعقيدات قانونية وتشغيلية تجعل مناخ الاستثمار شديد الخطورة. فرغم استمرار تصدير الماشية عبر بورتسودان، فإن وتيرة التبادل التجاري تباطأت بشكل حاد، بسبب المخاطر الأمنية التي تقترب من مناطق الإنتاج الرئيسية في الجزيرة وسنار والنيل الأزرق.
التنافس الإماراتي وقلق الرياض المكتوم
بعيدًا عن التصريحات الرسمية، ثمة تناقضات صامتة بين الرياض وأبوظبي في الملف السوداني. فبينما ترتبط قوات الدعم السريع بعلاقات استراتيجية مع الإمارات، تتعامل السعودية مع صعود حميدتي بكثير من الحذر، تخوفًا من تموضع إماراتي دائم في السودان يوازي نفوذها أو ينافسه، وربما يفتح الباب لنفوذ روسي في مياه البحر الأحمر.
هذا التباين ظهر جليًا في تباعد الرؤى داخل مفاوضات جدة، حيث أبدت الإمارات تفضيلًا لمسارات بديلة، في حين أصرت السعودية على الإبقاء على منصة التفاوض كأداة لإعادة بناء الدولة السودانية ضمن حدودها الحالية، وليس لتقسيمها أو فرض أمر واقع جديد.
فوضى محتملة: هواجس أمنية من كل الاتجاهات
لا تنحصر مخاوف السعودية في صراع النفوذ أو الحسابات الاقتصادية، بل تشمل مشهدًا أمنيًا يتسم بالتشظي الخطير:
الهجرة غير النظامية: في حال انفجار الصراع بشكل أوسع أو تحول السودان إلى دولة فاشلة، فإن السعودية مهددة بتدفقات بشرية عبر البحر الأحمر، يصعب ضبطها أو استيعابها.
الجماعات المتطرفة: مناطق الفراغ الأمني في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، توفر بيئة خصبة لنشاط جماعات متطرفة، قد تُهدد أمن المملكة في المدى المتوسط.
تهريب الذهب: أشارت تقارير موثوقة إلى عمليات تهريب ممنهجة للذهب السوداني، بعضها يتم بطائرات خاصة أو عبر شبكات عابرة للحدود، في تحدٍ صارخ للاقتصادين السوداني والإقليمي.
الجالية السودانية في السعودية: جسور بشرية هادئة
تُعد الجالية السودانية في السعودية من أكبر الجاليات وأكثرها استقرارًا. وقد ظلت هذه الجالية بمنأى عن ارتدادات الحرب، بفضل سياسات الاستيعاب والتعامل الهادئ من قبل السلطات السعودية. ومع ذلك، فإن استمرار الحرب قد يخلق انقسامات سياسية داخل الجالية نفسها، وهو ما يثير حذر الرياض، خاصةً إذا تحول هؤلاء إلى أدوات ضغط سياسي خارجي.
خيارات السعودية المستقبلية: وساطة أم تموضع؟
رغم تمسّك السعودية بخيار “التهدئة والوساطة”، إلا أن تطورات الحرب وتزايد الانخراط الإقليمي والدولي قد يدفعان الرياض إلى تغيير استراتيجيتها. فهناك احتمالان رئيسيان أمامها:
الاقتراب من الجيش السوداني باعتباره الطرف الأكثر ارتباطًا ببقاء الدولة ومؤسساتها، خاصةً إذا أُرفق ذلك بانتقال سياسي مدني تدريجي.
دعم مبادرة إقليمية أوسع تشمل الاتحاد الإفريقي، “الإيقاد”، ومصر، لضمان تسوية لا تُكرّس التفكك، ولا تُمكّن قوى خارجية من تثبيت موطئ قدم على حساب الأمن الإقليمي.
خاتمة: لحظة الحقيقة في البحر الأحمر
العلاقات السودانية السعودية لم تعد مجرّد ملف ثنائي، بل تحوّلت إلى عقدة إقليمية تمتحن قدرة الرياض على التوفيق بين الحذر الدبلوماسي وضرورات الحسم الاستراتيجي. ومع استمرار الحرب وتفاقم تداعياتها، فإن المملكة تقف أمام مفترق طرق: إما الاستمرار في الوساطة كقوة ناعمة، أو الانتقال إلى دور أكثر فاعلية لحماية مصالحها، من بوابة الدولة السودانية نفسها.