في لحظة سياسية استثنائية، ألقى رئيس الوزراء الانتقالي د. كامل إدريس خطاباً شاملاً، كان بمثابة بيان تأسيسي لمرحلة ما بعد الحرب، رسم فيه معالم الأولويات الوطنية العاجلة، وفي مقدمتها الأمن القومي، بناء مؤسسات العدالة، والانفتاح الإقليمي والدولي.
الأمن أولاً: معركة من أجل بقاء الدولة
تصدر الخطاب تأكيد حاسم بأن “الأمن القومي وهيبة الدولة” يشكلان الأولوية القصوى للحكومة الانتقالية، في ظل ما وصفه إدريس بـ”التمرد والمليشيات المتمردة”. وهو ما يعكس توجهاً نحو تصفير التهديدات المسلحة، وإعادة فرض سيطرة الدولة على كامل التراب السوداني.
“لن تُبنى دولة بلا أمن ولا سيادة. والمليشيات لن تكون بديلاً عن المؤسسات”، قال إدريس بلهجة قاطعة.
هذا الموقف يعكس تحولاً نحو الحسم في مواجهة الجماعات المسلحة، ويُعتبر بمثابة رسالة داخلية وخارجية بأن الحكومة الانتقالية تتجه لإنهاء حالة التفكك الأمني بقوة القانون وربما بالسلاح.
و اتهم إدريس بعض الدول بدعم المليشيات، ودعاها إلى “التوقف عن العمليات الإجرامية”. وهي سابقة دبلوماسية تعكس توجه الحكومة لفضح الدور الإقليمي السلبي في تعميق الأزمة السودانية.
وبينما لم يسمّ الدول المتهمة، إلا أن الرسالة الدبلوماسية كانت واضحة: أي طرف خارجي يُغذّي الصراع، سيتحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية عن إراقة الدماء واستمرار الفوضى.
⚖️ القانون فوق الجميع: بناء مؤسسات العدالة
في الجانب المؤسساتي، شدد رئيس الوزراء على أهمية “بناء دولة القانون”، مع التركيز على إصلاح القضاء، النيابة، والمحكمة الدستورية. ويُفهم من ذلك أن الحكومة الانتقالية تسعى إلى:
إعادة بناء منظومة العدالة من الجذور.
ضمان استقلال القضاء كمقوم أساسي للمرحلة الانتقالية.
تهيئة الأرضية القانونية للمحاسبة والعدالة الانتقالية.
هذا الطرح يلقى قبولاً لدى القوى المدنية والدول المانحة التي تعتبر قيام نظام عدلي مستقل شرطاً لأي دعم سياسي أو اقتصادي مستدام.
عودة السودان للعالم:
في ختام خطابه، أعلن إدريس التزام السودان بتعزيز علاقاته الخارجية مع دول الجوار، والمنطقة العربية، والأفريقية، والعالم أجمع. ويشير ذلك إلى:
محاولة لكسر العزلة السياسية والدبلوماسية.
تبني سياسة خارجية قائمة على التعاون.
فتح نوافذ جديدة لشراكات اقتصادية وتنموية.
ويبدو أن الحكومة تريد أن تقول للعالم: نحن شركاء في الأمن الإقليمي والتنمية، لا عبء سياسي أو مصدر قلق.
من حيث الشكل والمضمون، يظهر خطاب د. كامل إدريس كرؤية متكاملة لمرحلة انتقالية مختلفة، تؤسس لدولة قوية، عادلة، منفتحة.
لكن من حيث الواقع، فإن تحقيق هذه الرؤية سيصطدم بتحديات مركبة:
استمرار القتال في عدد من الولايات.
هشاشة الثقة بين القوى السياسية.
ضغوط داخلية وخارجية متباينة.
ورغم ذلك، فإن الخطاب يُحسب للحكومة كخطوة نحو استعادة المبادرة السياسية، وتقديم تصور متماسك حول كيف يمكن للسودان أن يخرج من عنق الزجاجة.
يبقى السؤال الأهم: هل تتحول الأقوال إلى أفعال؟ أم أن السودان سيظل عالقاً بين الخطابات الطموحة والوقائع المؤلمة؟