الخرطوم لم تتحرّر ببيان، بل تحررت بالدم، والعرق، والصبر الطويل.
تحررت لأن هناك رجالاً في الجيش السوداني عقدوا العزم أن لا تُهان العاصمة، ولا يُدنس ترابها، ولا يُرفع على مؤسساتها علم المرتزقة.
لقد ظن العدو أن الخرطوم ستُؤخذ في أيام، وأن السلاح سيفرض الأمر الواقع، وأن المال القادم من الخارج سيشتري الولاء.
لكن ما لم يفهموه أن الجيش السوداني لا يُهزم في معركته الوجودية، وأنه حين يصمت، فهو يخطط، وحين يتراجع، فهو يلتفّ، وحين يهاجم… فهو يحسم.
معركة الخرطوم لم تكن فقط معركة طائرات وبنادق، بل كانت حرب نفس طويلة، ومعركة إرادة.
منذ دخول المليشيا الغادرة إلى قلب الخرطوم، بدأت صفحات الخيانة تُكتب من بعض من باعوا الوطن بثمن بخس.
أُحرقت المقار، نُهبت البيوت، واغتُصبت النساء، وفُتحت السجون للمجرمين، حتى أصبح المواطن في وطنه أسيرًا.
ومع كل ذلك… لم ينهزم الجيش.
في معركة التحرير الكبرى، قدم الجيش تضحيات عظيمة:
ضباط واجهوا الموت في شوارع ضيقة، بلا دعم جوي، لكنهم اختاروا القتال حتى الرصاصة الأخيرة.
جنود قاتلوا في حرور يوليو وأمطار نوفمبر، في الأحياء والأنفاق، وعلى الجسور، كما يقاتل من يدافع عن بيته وأطفاله.
وحدات كاملة تم عزلها خلف خطوط العدو، لكنها صمدت شهورًا، تقاتل وتحمي وتنتظر ساعة الخلاص.
ولم يكن الطريق إلى البيان الأخير مفروشًا بالورود…
بل كانت المليشيا تتحصن بين المدنيين، تستخدمهم دروعًا بشرية، وتحتمي بالمساجد والمستشفيات والمدارس، في خسةٍ لا يفعلها إلا من فقد شرف القتال.
ومع ذلك… حسم الجيش المعركة.
حاصر قادة المليشيا في أزقة الخرطوم القديمة. خنق مخططاتهم. شلّ حركتهم. وأسقط أحلامهم الواهية بإعلان “دولة الجنجويد”.
واليوم، يطلّ علينا البيان المنتظر: “الخرطوم خالية من الجنجويد”.
لكن خلف هذا البيان تقف آلاف القصص:
أم فقدت ولدها في معركة “سلاح المهندسين”
زوجة تلقت خبر استشهاد زوجها وهو يحرر “القيادة العامة”
جندي ظلّ مقاتلًا في مستودع وقود رغم الحصار حتى اللحظة الأخيرة.
إن النصر في الخرطوم لم يكن عسكريًا فقط، بل كان نصرًا أخلاقيًا، وطنيًا، وإنسانيًا.
لقد انتصرنا على مشروع التقسيم، على أموال الخارج، على سماسرة المرتزقة، وعلى الخيانة.
واليوم، ما على الشعب إلا أن يفهم:
أن الخرطوم عادت لأن جيشكم لم يخنكم.
وعلى كل سوداني وسودانية أن يردّ هذا الجميل بالوحدة والتماسك، وبمعركة بناء السودان من جديد.
الخرطوم عادت إلينا… فلنعد إليها بقلوب مخلصة، وأيادٍ تبني لا تهدم.