زمزم… ليست مجرد اسم على خارطة الوطن،
زمزم هي قلبٌ نابضٌ بالوجع،
وأنينٌ عالق في صدر الأرض،
هي دمعةُ أمّ، وآخر زفرةٍ لطفلةٍ نازفة.
في إحدى خيام معسكر زمزم،
تلفظ طفلةٌ نازحة أنفاسها الأخيرة،
وعيناها تبحثان عن شمس لم تشرق بعد،
عن وطنٍ لم يعرف الطهر منذ أن دنّسته الميليشيات.
“لا تسأليني عن الوطن يا أمي،
اسألي عن الجثث المقطّعة على الطرقات،
عن الدماء، عن الصراخ، عن العيون الفارغة…
أنا لم أمت يا أمي، بل كتبتُ رسالة،
رسالتي للناس: خذوا بثأري…
أعيدوا كرامة كل أمّ،
وأوقدوا نار الحقّ من عظامنا.”
تحتضنها أمّها،
تطبع قبلةً على جبينها، وتُودّعها كما تُودّع الأرض زهرةً سُقيت بالدم،
ثم تصرخ… تصرخ كما لم يصرخ قلب من قبل:
“يا رب… خذ دمي قربانًا لوطنٍ يستحق الحياة.”
ما حدث في دارفور ليس صراعًا عاديًا…
إنها مذبحة وطن،
خيانةُ تاريخ،
وسقوطُ إنسانية.
الاغتصاب، القتل، الحرق، النهب…
كلّها فصولٌ من رواية كتبها أعداء الحياة،
وراقبها العالم في صمتٍ مخزٍ.
ولكن…
هيهات أن يُقتل الأمل،
فمن بين رماد الألم،
خرجت القوات المشتركة،
أبناء دارفور،
من ذاقوا الجوع، والشتات، والفقد،
من حملوا أرواحهم على أكفّهم،
وقالوا: لا خضوع، لا تراجع، لا نسيان.
القوات المشتركة ليست فقط جيشًا،
بل قَسَمٌ مكتوبٌ على جباه الرجال:
“لن تُدنّس دارفور بعد اليوم،
ولن تئن زمزم مرتين.”
أنا من زمزم…
من أبو شوك، من أم كدادة، من فاشر السلطان،
أنا ابنة الجراح،
أنا صوت النازحين،
أنا وجعٌ مُعلّقٌ على باب كل خيمة،
لن أصمت،
ولن أتنازل عن شرف الانتماء.
قالوا عنا: نحن قلّة،
نحن مشردون،
لكننا نحن من علّم التاريخ كيف تُولد الثورات من رماد،
نحن الذين شربنا الصبر، وحفظنا العهود.
دارفور…
نزفت كثيرًا، لكنها لم تمت.
وما زال في الأرض نساءٌ يبكين أبناءهن،
وأطفالٌ ينامون على حلم العودة،
وشهداءٌ يوصوننا كل صباحٍ: لا تنسونا.
واليوم، ونحن نكتب هذه السطور،
نقسم أمام الله والتاريخ:
لن ننسى، لن نخون، لن نسامح،
وإن خُيّرنا بين الذل أو الموت،
فنحن اخترنا أن نكون… لا أن لا نكون.
سنكتب تاريخنا بدماء الشرفاء،
وبعزيمة جيشٍ مشتركٍ لا يعرف الانكسار،
لا يعرف القبلية، لا يعرف الخيانة،
بل يعرف الوطن.
الآن، شرف الوطن يُدنّس، يُستباح.
ولكن… هيهات، هيهات!
لدينا أسود تزأر من قلب الصحراء، ورجال قدّموا أرواحهم فداء،
لدينا جيشٌ قادر على سحقهم،
ولدينا قوةٌ مشتركة قادرة على طمسهم.
اعذروني، فلن أكن عند النصر.
أنا بنت من معسكرات النزوح: زمزم… أبو شوك… أم كدّادة…
أنا بنت فاشر السلطان، أنا ابنة السودان.
لنتوحّد،
وسننـبذ كل خطابٍ ينادي بالتقسيم والتفرقة،
لنغسل عار الجبناء،
ونمحي تاريخًا أسود…
جعلنا ننسى من نحن،
وما قدمنا من أجل الوطن،
وكم شهيدٍ رحل،
وكم وجعٍ ونحيبٍ سكن البيوت.
تأكّدوا:
نحن أُكِلنا يوم أُكِل الثور الأسود،
عندما قدّمنا وثيقة الإعدام
وعلى وجوهنا ابتسامة،
كأنما نلنا الخلاص…
لكن ممن؟
الخلاص كان من أنفسنا،
عندما تنازلنا، ولم ننصف الحق.
هكذا هي الحياة…
لكن سيبقى السلام، ويعود الأمان،
فالعدل ميزان.
خانتنا الكلمات يومًا،
فلن تخوننا الدموع،
وإن عجز الحبر،
فدماؤنا تكتب، وأرواحنا تشهد.
فليعلم القاصي والداني…
أن من خرج من رماد دارفور
لن يعود إليه إلا منتصرًا،
وأن الذين قُتلوا… لم يُقتلوا عبثًا،
بل رصّعوا درب الخلاص بأجسادهم،
ليمرّ الوطن من فوقهم حرًّا، موحّدًا، عزيزًا.
نقسم أمام الله،
وأمام كل أمّ لا تزال تنتظر،
وأمام كل طفل يسأل عن بيتٍ تحت السماء…
أن لا نساوم،
أن لا نُفرّط،
أن لا نغفر لمن خان،
وأن نرفع راية العدل، لا تنكّس أبدًا.
سلامٌ وأمان،
فالعدلُ ميزان