الجمعة, أغسطس 8, 2025
الرئيسيةمقالاتمراكز البحث العلمي ..إستثمار العلم المطلوب .. ...

مراكز البحث العلمي ..إستثمار العلم المطلوب .. بقلم د.إسماعيل الحكيم..


يقف السودان مع اقتراب حرب الكرامة من نهايتها بإذن الله ، على أعتاب مرحلة جديدة تتطلب قرارات مصيرية تحدد مستقبل الدولة وشعبها. فإعادة الإعمار، وإصلاح الاقتصاد، وإعادة بناء المؤسسات، وتحقيق المصالحة الوطنية وغيرها من القضايا ، كلها تحديات تحتاج إلى قرارات مدروسة تستند إلى بيانات دقيقة وتحليل علمي رصين . وهنا يأتي دور مراكز البحوث باعتبارها الجهة القادرة على توفير المعرفة الموثوقة، والتنبؤ بالمخاطر، وصياغة الاستراتيجيات الفعالة.
ففي عالم اليوم، لا مكان للعشوائية والقرارات المرتجلة أو المبنية على الانفعالات ، فالدول المتقدمة تستثمر في البحث العلمي بوصفه أداة رئيسية لصناعة المستقبل وقياس متطلبات كل مرحلة . وتشير الإحصاءات إلى أن الدول التي تخصص نسبة 2-5% من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث العلمي تحقق نموًا اقتصاديًا واستقرارًا سياسيًا يفوق غيرها. ففي الولايات المتحدة مثلا ، يتم إنفاق 668 مليار دولار سنويًا على البحث العلمي، وفي الصين 441 مليار دولار، بينما لا تزال ميزانيات البحث العلمي في الدول العربية والأفريقية ضئيلة جدًا، وهو ما يفسر التخلف التنموي في العديد من القطاعات.
فاتخاذ أي قرار دون بيانات دقيقة يشبه السير في الظلام والانحدار نحو الهاوية . فمراكز البحوث تقوم بجمع وتحليل البيانات من خلال المسوحات الميدانية وتقييم حجم الأضرار ليتم تحديد أولويات إعادة الإعمار والبناء ..فعلى سبيل المثال اقتصادياً مطلوب دراسات اقتصادية لتحليل الواقع الاقتصادي، ومن ثم تحديد القطاعات القادرة على تحقيق اسرع نمو ممكن ومطلوب. بجانب البحوث الاجتماعية القائمة على فهم التغيرات الديموغرافية والمشكلات الاجتماعية الناجمة عن الحرب ، ووضع الاستراتيجيات اللازمة لما خلفته الحرب من آثار نفسية واجتماعية وسلوكية لا تخفى على أحد.
وغالباً بعد الحروب، تحتاج الدول إلى رؤية واضحة لإعادة البناء والإعمار وهنا تكمن أهمية مراكز الأبحاث التي تساعد في وضع خطط إستراتيجية طويلة الأمد لإعادة الإعمار وفق معايير علمية ورؤى متطورة . وتحديد الأولويات الوطنية بناءً على الدراسات العلمية لا على الااعتبارات الآنية .مع اقتراح سياسات شاملة تعزز النمو وتحمي البلاد من الأزمات اللاحقة والمتوقعة .
ففي ظل عالمنا المتغير هذا ، لا يمكن لصانع القرار أن يعتمد فقط على الحدس أو الانفعال اللحظي مع الأحداث . فمراكز الأبحاث تقدم نماذج محاكاة للأزمات المحتملة (مثل الأزمات الاقتصادية أو الأمنية).وتحليل المخاطر لمشاريع التنمية قبل تنفيذها.ووضع استراتيجيات لمواجهة التحديات الجيوسياسية التي تؤثر على السودان. والدول التي لا تمتلك مراكز بحوث قوية ، وتعتمد على مراكز أبحاث أجنبية ، فهذه غالباً ما تكون قراراتها مرتجلة أو مرتبطة بأجندات خارجية . لذلك بناء مراكز بحث وطنية يمنح السودان استقلالية معرفية وقدرة على اتخاذ قرارات سيادية قائمة على دراسات سودانية خالصة.
ومن هنا تنبع أهمية الحاجة الي مراكز البحث العلمي فما دمرته الحرب من البنى التحتية الحيوية، والمؤسسات الخدمية يحتاج إلى دراسات دقيقة متخصصة لتسهم في إعادة الإعمار بشكل علمي ومستقبلي ، مما يؤدي إلى الغرض المطلوب بكل يسر . كما ان الحكومة تحتاج إلى خرائط تفصيلية لتوضيح الأولويات العاجلة ، وأفضل آليات التمويل لها، والجدوى الاقتصادية لكل مشروع مع تحديد فترته الزمانية . فالحرب تسببت في شرخ اجتماعي عميق مس كل مكونات المجتمع ، ومراكز البحوث هي التي تساعد في تحليل المشكلات ومن ثم تقديم توصيات لبرامج تعيد الثقة في هذه المجتمعات وتقلل من إشكالاته . أيضاً بناء نماذج عدالة انتقالية تستند إلى تجارب دولية ناجحة كما حدث في رواندا وجنوب أفريقيا.
فالسودان بحاجة إلى إعادة هيكلة اقتصادية وفلسفة علمية تؤطر لاستغلال موارده الضخمة (الزراعة، المعادن، الطاقة).ومراكز البحوث يمكنها تقديم دراسات علمية محكمة حول القطاعات الأكثر قدرة وفاعلية على تحقيق نمو سريع، ووضع استراتيجيات تجذب الاستثمارات الأجنبية.
كما أننا بعد الحرب، تحتاج المؤسسات الحكومية إلى إعادة هيكلة شاملة إدارياً ووظيفياً ومراكز البحوث تساعد في تقديم خطط لإصلاح الإدارة العامة، وتعزيز الشفافية، ومكافحة الفساد.
والعالم من حولنا يعج بنماذج مشرقة لدول إستفادت من الحروب مثل كوريا الجنوبية فبعد الحرب الكورية (1950-1953)، كانت دولة مدمرة تمامًا، لكن بفضل الاستثمار في البحث العلمي والتخطيط الاستراتيجي، تحولت خلال 50 عامًا إلى واحدة من أقوى الاقتصادات في العالم. وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وضعت سياسات اقتصادية اعتمدت على دراسات بحثية متعمقة، مما أدى إلى نهضة اقتصادية مذهلة في أقل من عقدين. رواندا وبعد الإبادة الجماعية عام 1994، اعتمدت على البحث العلمي لصياغة سياسات المصالحة الوطنية والنهوض الاقتصادي، حتى أصبحت واحدة من أسرع الاقتصادات نموًا في أفريقيا. عليه لابد من تأسيس هيئة وطنية لدعم البحث العلمي، بميزانية لا تقل عن 1% من الناتج المحلي الإجمالي.مع إنشاء مراكز أبحاث متخصصة في مجالات الاقتصاد، الأمن، الصحة، والتعليم، وربطها مباشرة بصناع القرار وهذه وصيتنا للدولة .. ولابد من إقامة شراكات مع الجامعات السودانية والقطاع الخاص لدعم البحث العلمي. واستقطاب الكفاءات السودانية في الخارج لإنشاء مراكز بحثية بمعايير عالمية.
ويمكننا إطلاق برامج تمويل للأبحاث التطبيقية التي تقدم حلولًا عملية لمشكلات ما بعد الحرب. ففي المرحلة القادمة بإذن الله ، لن يكون هناك مجال للاجتهادات العشوائية أو القرارات غير المدروسة. فإعادة بناء السودان تحتاج إلى عقول تخطط ، وأبحاث تحلل، وبيانات ترشد . فالدولة التي تريد النهوض بعد الحرب، لا تحتاج فقط إلى إرادة سياسية، بل إلى مراكز بحوث قوية يقودها العلماء المخلصون لتكون الوجهة مستقبل مستقر ومزدهر بحول الله وقوته . فهل نستثمر في العلم أم نكرر أخطاء الماضي؟

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات