مؤمن الغالي الجعلي ، كتابٌ أحمرَ الغلافِ ، أخضرَ الدواخلِ ، صاحبُ حسٍّ فنيٍّ رفيع ، وذوق وأدب ولغة وفصاحة ، وثراء ثقافي ونفسي ، قلّ أن يتوفّر لشخص واحد ، وقد عرفته بتلك الصفات وذلك النقاء والصفاء منذ أول ثمانينيات القرن الماضي، عندما زاملتُ شقيقه الأصغر الدكتور مرتضى الغالي ، صاحبُ أشهر (مسألة) في الصحافة السودانية ، والذي كان قد تقدّمني وعدد من زملاء المهنة في صحيفة (الأيام) الغراء ، أيام بهائها ومجدها ، وكان – ولازال – كاتباً متميزاً مثقفاً مطوَّعاً للكلمات حتى يستخدمها في أوانها بما تعني وبما يجمِّل الصورة والمعنى .
كنَّا مجموعةً مترابطة ، تعارفنا وتآلفنا وإجتمع معنا أصدقاء من خارج دائرة صحيفة (الأيام) التي كانت توزِّع وقتها أكثر من مائة وعشرين ألف نسخة .
ومن مجموعتنا تلك كان هناك الأساتذة الصحفي الكبير نجيب نور الدين وشقيقه الصحفي صاحب الفلسفة والرؤى المتقدمة ، مهدي نور الدين ، وهاشم كرار وعثمان عابدين رحمهم الله وغيرهم … ومن خارج دائرة الصحيفة كان هنالك الأساتذة التجاني سعيد صديقنا الشاعر المرهف صاحب (من غير ميعاد) (وقت ارحل) وكان هناك الراحل محمد طه القدال ، وكان هنالك مؤمن الغالي الرجل المبدع الذي وجد نفسه تاجراً في سوق أم درمان قد ورث مهنة الآباء التي تدر عليه مالاتدره عليه أي مهنة أخرى ، وكان هنالك آخرون .
أعجبت تماماً بشخصية الصديق الجديد مؤمن الغالي ، وكان مثلما بدأنا هذا المقال، كتاباً أحمر أخضر الدواخل ، وماكنت أعجب لأن يكون يسارياً أو شيوعياَ إذ كان ذلك توجه أكثر شاب تلك الفترة ، أي اولئك الذين نشأوا في ظل حركات التحرر الوطنية ، وفي ظل محاربة الإمبريالية والإستعمار ـ لكنني كنت أعجب من كونه سليل بيت أنصاري عريق ، جده لأبيه حارب في كرري ، وكان لي قناعة تامة بأن (الأنصار) كيان يصعب إختراقه لصالح أي تيار فكري آخر لأنه كيان أقرب للكيانات العقائدية ، ولكن روح مؤمن الغالي المتمردة جعلته يتجه يساراً دون أن يشاور أي من قرابته أو أبناء حيّه ودنوباوي العريض الذي مازال إلى يومنا هذا يمثل الوجود الأنصاري الصرف في مدينة أم درمان .
مؤمن الغالي الذي غاب عنا في مثل هذه الأيام قبل خمس سنوات بالتمام والكمال ، رجل مرهف الأحاسيس محب للشعر والغناء والموسيقى ، معجب بكثير من فناني نهضة الغناء السوداني الحديث ولكننا كنا نختلف معه في رأيه حول أغنيات الحقيبة إذ كان يرى أنها (سافرة) ومباشرة وحسية ، ومع ذلك كنا نتجاوز عن هذا الإختلاف فـ(الأعوج رأي والعديل رأي ) كما نقول .
توطدت العلاقة بيني وبين الراحل المقيم مؤمن الغالي حتى أن أكبر أبنائي حمل إسم مؤمن وماكنت قبل مؤمن الغالي أعرف شخصاً حمل هذا الاسم ، وإن علمت لاحقاً أن أحد أشقاء شاعرنا الكبير الراحل الأستاذ مصطفى سند ، حمل إسم مؤمن أيضاً وهو خبير مصرفي معروف ، وكنت أطلق على صديقنا مؤمن – تحبباً – إسم (أول مؤمن في السودان) وكان هو يأسى كثيراً على أن أًطُرَ اليسارِ ضاقت عليَّ فلم تحتويني ، ولم أتحملها ، ويرى أن في ذلك خسارة كبرى للطرفين .
مات مؤمن الغالي (جداً) وانطوت صفحة لا نحسب أنها ستتكرر ، فالرجل هجر التجارة والمال والغنى إلى مهنة النكد التي أحبها وأحبته وقدم لها الكثير فكافأته بحب زملائه وأصدقائه وقرائه .
(رحم الله مؤمن الغالي في ذكرى رحيله الخامسة ، رحمة واسعة وعفا عنه وغفر له وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا).
*sagraljidyan@gmail.com*