﴿وَمَن أَحۡيَاهَا هَا فَكَأَنَّمَآ أَحۡيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعٗا﴾ صدق الله العظيم
في بلادٍ يعلو فيها صراخ الحرب على صوت الطفولة،
وفي وطنٍ يُدفن فيه الحلم قبل أن ينطق الطفل كلمته الأولى،
يولد مشروع قانون صندوق دعم الطفل 2024 كقبسٍ من ضوءٍ في ليلٍ طويل.
في السودان، يموت الأطفال بصمتٍ، لا لأنهم اختاروا الموت، بل لأن الكبار اختاروا أن ينسوا.
يموتون جوعًا ونزوحًا وذعرًا، بين ركام المدارس المحترقة والملاجئ المهدمة،
وفي تقارير رسمية صدرت عن الأمم المتحدة واليونيسف، يُقدّر أن أكثر من 14 مليون طفل سوداني يواجهون خطر الجوع وسوء التغذية،
وأن أكثر من 3 ملايين طفل نزحوا قسرًا من بيوتهم،
وأن المئات تمّ تجنيدهم قسرًا أو فقدوا ذويهم في مناطق القتال.
هؤلاء ليسوا أرقامًا، بل وجوهٌ فقدت دفءَ الأسرة، وملامحُ تبحث عن حضنٍ آمن.
ومن أجلهم، جاء هذا القانون ليكون صرخة الدولة في وجه النسيان،
وليردَّ الاعتبار للطفولة التي حاصرها البارود، وأرهقها الجوع، وأذلّها التشرد.
أطفال الحرب في السودان يموتون بصمت
في كل ولاية من ولايات السودان، حكاية طفلٍ لم يكتمل عمره بعد،
لكن الحرب جعلت منه شاهدًا على فظاعةٍ تفوق وعيه الصغير.
طفلٌ في معسكرٍ لا يعرف غير التراب سريرًا، وآخرُ في مدينةٍ قُصفت مدرستها فحمل كتابه الممزق هربًا لا علمًا.
وأمٌّ ترضع صغيرها من خوفٍ لا من حليب.
تقول تقارير الأمم المتحدة إنّ السودان يشهد أسوأ أزمة إنسانية لأطفاله منذ الاستقلال،
حيث إن واحدًا من كل ثلاثة أطفال أصبح بحاجةٍ عاجلةٍ إلى الغذاء أو الدواء أو المأوى،
وأن الانتهاكات ضد الأطفال تضاعفت ثلاث مرات خلال العام الأخير،
بين قتلٍ وتشريدٍ واستغلالٍ وتجريدٍ من أبسط حقوق الحياة.
لقد تحوّلت الحرب إلى آلةٍ تطحن الطفولة بلا رحمة،
بينما تُستنزف موارد الدولة في البقاء بدل البناء،
والمجتمع الدولي يقف عند حدود الشجب دون أن يمدّ يد العون بما يليق بحجم المأساة.
هكذا وُلدت فكرة صندوق دعم الطفل 2024 — من قلب هذا الخراب،
كاستجابةٍ وطنيةٍ صادقةٍ لصوتٍ غائب،
لتتحول المأساة إلى مشروع حياةٍ جديد، يضمن أن لا يكون الطفل ضحية نسيانٍ مرتين.
القانون الذي وُلد من رحم المعاناة
من بين ركام الحرب، ومن بين صرخات الأمهات وأشلاء المدارس،
جاء مشروع قانون صندوق دعم الطفل 2024 ليعيد للدولة وجهها الإنساني،
وليضع لبنةً أولى في طريقٍ طويل نحو العدالة الاجتماعية للطفل السوداني.
فالقانون لم يكن ترفًا إداريًا، بل ضرورة وطنية وإنسانية فرضتها الحقائق المؤلمة على الأرض.
لقد نصّ على إنشاء صندوق وطني مستقل ماليًا وإداريًا،
تحت إشراف وزارة التنمية الاجتماعية،
يُعنى بتقديم الدعم والرعاية لكل طفل متأثر بالحرب أو الفقر أو النزوح.
ويهدف الصندوق إلى:
ضمان الحق في التعليم، والصحة، والرعاية النفسية والاجتماعية لكل طفل دون تمييز.
تمويل برامج إعادة دمج الأطفال المجندين والمشردين في المجتمع.
إنشاء قاعدة بيانات وطنية لتحديد الفئات الأكثر هشاشة.
تنسيق الجهود بين الوزارات والمنظمات والولايات.
وتخصيص موارد عادلة وشفافة تُوزع على جميع الولايات.
أما مجلس الأمناء فيضم ممثلين من الوزارات ذات الصلة، ومنظمات المجتمع المدني، والخبراء في قضايا الطفولة، ليضمن رقابة جماعية وشراكة حقيقية.
إن جوهر القانون يقوم على مبدأٍ بسيطٍ عميق:
✨ أن حماية الطفل ليست إحسانًا، بل حقٌّ وواجبٌ دستوريٌّ وأخلاقي،
وأن الدولة مسؤولة أمام ضميرها قبل القانون عن كل طفلٍ جائع أو مشرّد أو فاقد للرعاية.
شهادة الواقع والدليل الرسمي
حين كتبت د. سليمى إسحق ورقتها حول دواعي مشروع القانون، لم تكن تكتب رأيًا إداريًا، بل شهادةً على جريمةٍ إنسانيةٍ تتكرر كل يوم في صمت.
لقد قدّمت الدكتورة بلُغتها الصريحة أرقامًا ووقائع تكشف عمق المأساة:
ففي ظل الحرب، انهارت منظومات الحماية التقليدية التي كانت تلتف حول الطفل السوداني — الأسرة الممتدة، الجار، المعلم، المسجد — كلهم تراجعوا أمام طوفان النزوح والعنف.
وأشارت الورقة إلى أنّ الدولة لا تمتلك ميزانية واضحة مخصصة للطفل،
وأنّ آلاف الأطفال باتوا بلا مأوى أو عائل أو وثيقة ميلاد،
وأنّ الأطفال غير المصحوبين بذويهم يتزايد عددهم يومًا بعد يوم في مناطق النزاع.
ومن هنا، جاء القانون ليملأ هذا الفراغ،
وليعيد للدولة مسؤوليتها القانونية والإنسانية في حماية مواطنيها الأصغر سنًا.
كما أكدت الورقة أنّ السودان، بتوقيعه على اتفاقية حقوق الطفل والبروتوكولات التابعة لها، أصبح ملزمًا دوليًا بتوفير آليات الحماية والرعاية،
وأنّ إنشاء الصندوق ليس تفضّلًا، بل تنفيذٌ لالتزاماتٍ دولية ووطنية طال انتظارها.
إنّ دواعي إصدار القانون، كما وثّقتها د. سليمى، ليست فقط أرقامًا وتقارير؛
بل هي صرخة ضميرٍ وطني تقول:
✨ إنّ من لا يحمي أطفاله، لا يملك مستقبلًا.
وأنّ الوطن الذي يترك أطفاله يموتون في الخيام، يفقد حقه في أن يُدعى وطنًا.
من المأساة إلى العدالة: صندوق دعم الطفل 2024
لم يعد الحديث عن أطفال السودان ترفًا إنسانيًا، بل مسؤولية دولةٍ تواجه اختبار ضميرها.
فمشروع قانون صندوق دعم الطفل 2024 ليس مجرد ورقٍ في أدراج اللجان، بل وثيقة حياةٍ لأجيالٍ كاملةٍ تنتظر اعتراف الوطن بها.
لقد آن الأوان أن تُنهي الحكومة حالة الانتظار، وأن تُجيز القانون دون تأجيل،
فكل يومٍ من التأخير يعني طفلًا جديدًا يفقد حياته، أو ينام جائعًا، أو يُجنّد في حربٍ لا يفهمها.
هذا الصندوق ليس مؤسسة خيرية، بل ركيزة من ركائز الأمن القومي،
فالأطفال الذين نحميهم اليوم، هم المواطنون الذين سيحمون السودان غدًا.
ولأن الحرب لم تفرّق بين طفلٍ في دارفور أو النيل الأزرق أو الخرطوم أو الشمالية،
فإنّ هذا الصندوق يجب أن يكون وطنًا جامعًا يتساوى فيه كل طفلٍ في الحقّ والرعاية والفرص.
تقدّر التقارير الرسمية أنّ واحدًا من كل اثنين من أطفال السودان يعيش اليوم تحت خط الفقر،
وأنّ أكثر من 7 ملايين طفلٍ خارج مقاعد الدراسة،
وأنّ الحرب دفعت آلاف الأسر إلى حافة الانهيار الاجتماعي،
ما يجعل الصندوق ضرورة عاجلة لا تحتمل الانتظار ولا الجدل السياسي.
إنّ اعتماد هذا القانون هو الوفاء الأول لعهد الإنسانية،
وهو إعلان أنّ الدولة لا تزال تملك قلبًا نابضًا يشعر بأضعف مواطنيها،
وأنّ الحرب مهما امتدت، لن تقتل البراءة ما دام القانون حيًّا والعزيمة صادقة.
الخاتمة
هكذا، لا نكتب عن الأطفال فقط لأنهم صغار، بل لأنّ فيهم حكاية الوطن كاملة.
إنهم المرآة التي تعكس وجه السودان الحقيقي؛
إن ابتسموا، ابتسمت البلاد، وإن بكوا، بكينا جميعًا.
مشروع صندوق دعم الطفل 2024 ليس قانونًا عابرًا،
بل هو وعدٌ لأرواحٍ صغيرةٍ أن تُعاد إليها الحياة والكرامة،
وهو بداية مسارٍ جديدٍ نُعيد فيه بناء الوطن من حيث يجب أن يبدأ البناء: من الطفل.
سلامٌ على كل يدٍ تمسح دمعة طفل،
وسلامٌ على كل قلمٍ يكتب من أجلهم،
وأمانٌ لهذا الوطن ما دام فينا من يؤمن أنّ العدل ميزان لا يسقط ولو سقطت المدن.
سلام وأمان فالعدل ميزان.
✍️ بقلم الكاتبة الإعلامية عبير نبيل محمد
توقيع لا يُنسى
أنا الرسالة حين يضيع البريد،
أنا الصوت حين يخفت النداء،
أنا الذاكرة التي لا تُطفئها الحرب ولا يخنقها الرماد،
كتبت لأجل من لا يملكون صوتًا،
ولأنّ الطفولة لا تُؤجَّل إلى حين انتهاء الحرب…
أنا امرأة من حبر النار.
