الخميس, نوفمبر 13, 2025
الرئيسيةمقالاتمن العفو المشروط الى العدالة الشاملة: رؤية متكاملة للتعامل مع العائدين من...

من العفو المشروط الى العدالة الشاملة: رؤية متكاملة للتعامل مع العائدين من التمرد وتعويض الضحايا بقلم/ د. لؤي عبد المنعم رئيس تيار المصالحة الوطنية الشاملة

يعد التمرد الداخلي من أعقد الأزمات التي تواجه الدول والمجتمعات، لأنه لا يقتصر على صدام أمني أو سياسي، بل يمتد ليخلف تمزقا مجتمعيا، وخسائر بشرية ومادية، وانتهاكات عميقة للحقوق. لذلك فإن التعامل معه لا ينجح عبر مقاربة أحادية تعتمد إما على العقاب الخالص أو العفو المطلق، بل يتطلب معادلة دقيقة توازن بين إيقاف العنف، إعادة إدماج العائدين في المجتمع، وضمان العدالة للضحايا. هذه المقالة تقدم رؤية شاملة تبني مستقبل السلام على أربع ركائز: العفو المشروط، العدالة الانتقالية، تعويض الضحايا، وعدم الإفلات من العقاب.

أولا: في قبول طلب العائدين من التمرد (البعد القانوني، الشرعي، السياسي، الأخلاقي، والموضوعي)

1- البعد القانوني

العفو العام إجراء سيادي لجمع الفرقاء وإنهاء الحرب، لكنه لا يلغي الحقوق الخاصة للضحايا.

يمكن للعفو أن يسقط الدعوى الجنائية العامة، لكنه لا يشمل الجرائم الجسيمة (كالاغتصاب، القتل العمد، الاتجار بالبشر…) إلا إذا خضع الجناة لآليات مساءلة وعدالة انتقالية.

نجاح العفو قانونيا مشروط بتضمينه ضمانات بعدم العودة للعنف، ونزع السلاح، والخضوع لبرامج إعادة الإدماج.

2- البعد الشرعي

الشريعة تنطلق من مبدأ الإصلاح (والصلح خير)، وتجيز لولي الأمر العفو التعزيري إن كان يحقق المصلحة العامة.

لكنها لا تسقط حقوق العباد بغير رضاهم، ولا تجيز إبطال القصاص أو التعويض عن الدم والمال والاعتداء دون موافقة أصحابها.

التائب من التمرد يقبل رجوعه، لكن لا يعفى من رد المظالم.

3- البعد السياسي

العفو المشروط يمكن أن يوقف النزيف ويمنع التدخلات الخارجية ويعيد الاستقرار.
لكن بدون ضمانات قد يؤدي إلى:

  • شعور الضحايا بالظلم
  • مكافأة حمل السلاح
  • عودة التمرد لاحقا

4- البعد الأخلاقي

العفو قيمة أخلاقية إذا كان مصدره الرحمة والإصلاح، لا التفريط بالحقوق.

ويفقد شرعيته الأخلاقية إذا أصبح بديلا عن العدالة أو غطاء يخفي الجرائم دون جبر الضحايا.

5- الخلاصة في شأن قبول العائدين

إن القبول العادل ليس استسلاما ولا هو انتقام، بل هو مقاربة ثالثة أساسها عفو مشروط بنزع السلاح والاعتراف بالخطأ وجبر الضرر والخضوع للمساءلة العادلة وضمان عدم التكرار.

ثانيا: العدالة لا تكتمل دون التعويض (رؤية شاملة لجبر الضرر)

لا استقرار طويل المدى دون معالجة جراح المتضررين. والتعويض ليس منة سياسية، بل حق قانوني وأخلاقي وشرعي.

إنشاء منظومة وطنية للعدالة والتعويض على النحو التالي:

1- لجنة مستقلة تضم قضاة وخبراء وممثلين عن الضحايا، تتولى التحقيق، تلقي الطلبات وصرف التعويضات.

2- صندوق وطني للتعويض والإعمار تموله الدولة، وأموال مصادرة من قادة التمرد إذا ثبت فسادهم، ومساهمات دولية تحت رقابة شفافة.

3- قاعدة بيانات وطنية آمنة لحصر الضحايا والانتهاكات دون انتهاك الخصوصية.

ثالثا: فئات الضحايا وآليات تعويضهم

1- أسر القتلى والمفقودين

  • تعويض مالي فوري
  • معاش شهري لمن فقدوا معيلهم
  • منح تعليمية للأبناء
  • رعاية صحية ونفسية
  • اعتراف رسمي وذكرى وطنية تحفظ حقهم المعنوي

2- الضحايا الاقتصاديون (تدمير أعمال، فقدان مصادر رزق)

  • تعويض عن الخسائر
  • قروض بدون فوائد لإعادة التشغيل
  • تدريب مهني وإعادة تأهيل
  • تعويض عن الأرباح الفائتة إذا أمكن إثباتها أو تقديرها بمعايير عادلة

3- أصحاب الممتلكات (المصادرة، السرقة، التخريب)

  • الأصل: إعادة الممتلكات
  • إن تعذر: تعويض بالقيمة السوقية العادلة
  • إعادة الإعمار بإشراف الدولة والمجتمع
  • تعويض الممتلكات العامة ضمن مشاريع إعادة البناء الوطني

4- الأطفال و النساء المخطوفون أو المباعون في دول الجوار

  • فرق تتبع وطنية ودبلوماسية لاستعادتهم
  • تعاون قضائي مع دول الجوار والمنظمات الأممية
  • رعاية نفسية وتعليمية بعد الاسترداد
  • تعقب شبكات الاتجار ومصادرة عائداتها
  • مساندة الأسر أو توفير بدائل رعاية آمنة

5- النساء الناجيات من الاغتصاب

التزامات الدولة:

  • علاج طبي طارئ ودائم
  • دعم نفسي طويل الأمد
  • سرية تامة للهوية
  • حماية من التهديد والوصم الاجتماعي
  • تعويض نفسي ومادي، ومنح دراسية أو اقتصادية
  • إن نتج حمل: حماية الأم والطفل، مع ضمان حق الطفل في الهوية والحقوق المدنية
  • ملاحقة الجناة وعدم شمول جرائم الاغتصاب بالعفو المطلق

مبدأ محوري:

  • الناجية ليست مذنبة، ولا يجوز شرعا أو أخلاقيا أو اجتماعيا وصمها، بل نصرتها واجب

رابعا: بين التعويض والمساءلة وعدم الإفلات من العقاب

التعويض وحده لا يكفي، والمساءلة ضرورية، وفق أحد المسارين:

1- مساءلة قضائية للمتورطين في الجرائم الكبرى

2- عدالة انتقالية مشروطة (اعتراف، اعتذار، تعويض، خدمة مجتمعية، نزع الحقوق القيادية عن المتورطين…)

3- عدم شمول الاغتصاب والقتل العمد والاتجار بالعفو غير المشروط

خامسا: ضمانات عدم تكرار التمرد

  • إصلاح سياسي شامل يحاصر أسباب النزاع
  • مشاريع تنموية في المناطق المتضررة
  • منع عسكرة المجتمع واحتكار السلاح بيد الدولة
  • إدماج العائدين في برامج تأهيل نفسي، وفكري، ومهني
  • مراقبة دائمة لالتزامهم بالشروط

سادسا: مؤشرات نجاح الرؤية

  • سرعة صرف التعويضات
  • نسبة الأطفال العائدين لأسرهم
  • نسبة اندماج العائدين دون عودة للعنف
  • انخفاض النزاعات المجتمعية
  • استعادة ثقة المواطنين في الدولة

سادسا: نحو عدالة مستدامة بتمويل وطني مسؤول

إن بناء السلام الحقيقي لا يكتمل بوقف السلاح ولا بإصدار قرارات العفو، بل يتحقق حين يشعر الضحية أن الدولة ردت إليه حقه لا مجاملة بل عدلا، وحين يوقن المجتمع أن الأزمة لم تغلق بنسيان الجراح، بل بعلاجها وصناعة ضمانات عدم تكرارها. وكي تكون منظومة التعويض فاعلة لا شعاراتية، لا بد أن تقوم على تمويل وطني دائم، شفاف، وقابل للاستدامة، ومن أهم موارده المتاحة للدول الغنية بالمعادن الاستراتيجية هي عائدات الذهب.

آلية تخصيص جزء من إيرادات الذهب للتعويضات:

1- تأسيس إطار قانوني ملزم

يستحدث قانون خاص يسمى (قانون تخصيص نسبة من عائدات الذهب لصندوق العدالة والتعويض)، وينص على:

  • اقتطاع نسبة ثابتة من صافي عائدات الذهب السنوية (مثل 5%–10% بناء على دراسة الجدوى الاقتصادية للدولة).
  • يحظر توجيه هذه النسبة لأي بند آخر، وتعد التزاما سياديا غير قابل للإلغاء إلا بقانون مماثل.
  • تدرج النسبة مباشرة ضمن الميزانية الوطنية في باب مستقل بعنوان (صندوق التعويضات وجبر الضرر الوطني).

2- إنشاء صندوق سيادي مستقل

يدار الصندوق وفق المعايير الدولية للحوكمة (مثل معايير صناديق الثروة السيادية Santiago Principles) ويتميز بـ:

  • الاستقلال المالي عن الحكومة التنفيذية
  • الرقابة القضائية والتشريعية
  • مراجعة سنوية من شركات تدقيق دولية
  • نشر تقارير ربع سنوية للرأي العام

3- آلية تحصيل عائدات الذهب

تجمع إيرادات الذهب عبر ثلاث قنوات رسمية:

1- حصة الحكومة من الذهب المنتج عبر شركات الامتياز والشركات الصغيرة (الوطنية)

2- عقود التعدين مع الشركات الأجنبية (يخصم جزء من الإتاوات مباشرة لصندوق التعويض)

3- شراء الدولة لإنتاج التعدين الأهلي عبر البنك المركزي لضمان دخوله الاقتصاد الرسمي

ويحوّل الاقتطاع مباشرة لحساب الصندوق قبل دخوله للخزينة العامة لضمان عدم خلطه أو تأجيله.

4- التخصيص العملي للأموال داخل الصندوق

  • تقسم الموارد وفق نسب مدروسة علميا، مثال إرشادي يمكن تعديله بحسب عدد الضحايا وطبيعة الضرر:
  • بند التعويض (النسبة المقترحة من الصندوق و تفاصيل الاستخدام)
  • أسر الشهداء والمفقودين 25%
    -معاشات، منح تعليم، رعاية صحية
    جبر الضرر الاقتصادي 20%
  • تعويض خسائر الأعمال، قروض حسنة (بدون أرباح)، تعويض الممتلكات الخاصة 15%
    -إعادة ممتلكات أو تعويض بالقيمة السوقية، إعادة البناء للممتلكات العامة 15%
  • مدارس، مستشفيات، بنى تحتية متضررة، دعم النساء الناجيات من الاغتصاب 10%
    -علاج،دعم نفسي، تمكين اقتصادي، حماية قانونية، استرداد الأطفال المختطفين ودعمهم 10%
  • عمليات التتبع، إعادة الدمج، الرعاية
    احتياطي للطوارئ وجبر الأضرار غير المتوقعة 5% يتصرف فيه بقرار قضائي أو لجان مستقلة

5- معايير الصرف لضمان العدالة وعدم التسييس

يصرف التعويض وفق معايير موضوعية منها:

  • إثبات الضرر عبر لجان تحقيق مستقلة
  • أولوية الحالات وفق شدة الضرر لا النفوذ الاجتماعي أو السياسي
  • رفض أي تعويض لمتورطين في الجرائم مهما كانت صفاتهم أو انتماءاتهم
  • اعتماد نظام نقاط يحدد الأولوية: (فقدان معيل + ضرر اقتصادي + حالة صحية + عدد المعالين…)

6- آليات الحوكمة ومنع الفساد

  • نشر قائمة التعويضات (بدون كشف بيانات حساسة لقضايا الاغتصاب أو الأطفال)
  • بوابة إلكترونية شفافة لتتبع الطلبات
  • لجان مجتمعية تضم ممثلين عن الضحايا
  • عقوبات جنائية مشددة على أي تحايل أو استغلال أو فساد في الصندوق

من خلال ما تقدم يمكن ان نخلص الى ان تخصيص نسبة من الذهب لصندوق التعويضات يحقق:

  • مصدر تمويل سياديا غير خاضع للمنح أو التقلبات السياسية
  • التزاما وطنيا طويل الأمد تجاه العدالة والضحايا
  • تحويل الثروة المعدنية من مصدر صراع إلى أداة سلام وبناء
  • ربط المصالحة بالحقوق لا بالشعارات

بل يمكن اعتباره رسالة رمزية عميقة المعنى تتمثل في إن الذهب الذي قد يكون وقودا للنزاع، يتحول بإرادة الدولة والمجتمع إلى أداة لترميم الإنسان وجبر الكسر وبناء المستقبل.

ختاما يمكن القول ان المصالحة الحقيقية ليست طي الصفحة، بل قراءتها جيدا كي لا تتكرر. والعفو لا يكون عدلا إلا إذا اقترنت به المحاسبة والتعويض وصيانة الكرامة الإنسانية. إن المجتمع الذي ينتصر لضحاياه ويهذب خصومه دون أن يضيع حقا، هو المجتمع القادر على النهوض والاستقرار والتعافي.
https://www.facebook.com/share/p/1Mzo92NUiF/

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات