.
إنّ زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان للنازحين القادمين من الفاشر إلى مدينة الدبّة لم تكن مجرّد محطة ميدانية عابرة. بل كانت مشهداً كثيف الدلالة، متعدد الطبقات، يحمل رسائل لا تخطئها العين، بعضها ظاهر في تفاصيل الصور، وبعضها يتوارى خلف لحظة إنسانية نادرة لامس فيها القائد جراح شعبه بلا حواجز ولا بروتوكولات.
إنّ بكاء البرهان وسط الناجين من جحيم الفاشر لم يكن ضعفاً، بل كان قوة صافية، قوة من يعرف حجم المسؤولية وثقل الأمانة، ومن يرى الألم رأي العين فلا يملك إلا أن ينحني له بدمع صادق ورحمة واسعة . كانت تلك اللحظة إعلاناً بليغاً أن الدولة ليست كتلة صماء، وأن القيادة ليست موقعاً محصناً من وجع الناس. كانت الرسالة واضحة أن الرحمة ليست غياب الحزم، بل هي جوهره، وهي ما افتقدته المليشيا حين جعلت البطش عنواناً لوجودها، بينما اختار البرهان أن يجعل الإنسانية شاهداً على مواقفه.
إنّ الزيارة في ظاهرها تفقدية، وفي باطنها تجديد لعقد أخلاقي بين القيادة والشعب. فالمسؤولية عند البرهان لم تعد محصورة في العمليات العسكرية وحدها، بل تتسع لتشمل تفاصيل حياة المواطنين، آلامهم، مخاوفهم، نزوحهم، وكرامتهم. دموعه كانت جزءاً من خطاب غير مكتوب، يطمئن الشعب بأن القيادة معهم في السراء والضراء، لا في عناوين البيانات فحسب، بل في الميدان الآخر بين الأمهات الثاكلات والناجين الذاهلين والأطفال الذين يحملون الحكاية كلها في أعينهم.
أما الرسالة الأعظم إلى الخارج، فكانت أبلغ من أي مؤتمر صحفي. هذا هو السودان الذي يعرفه العالم الحقيقي شعبٌ معلّم، تصعد منه القيادة كما تصعد السنابل من ترابها، ويلتقي فيه رأس الدولة بقاعدته دون علو ولا تصنع. لحظة الدموع كانت نقطة التقاء بين القمة والقاعدة، بين الرئيس والمرؤوس، لأن القضية واحدة والهم واحد، ولأن هذا بلد كريم لا تُدار روحه من وراء المتاريس.
وفي خلفية المشهد، يلوح إعلان آخر.. انتهى زمن الجنجويد في السودان بلا رجعة بحول الله وقوته.. فلا محل لميليشيا تقوم على القسوة في وطن يستمد شرعيته من الرحمة. ما دوّنه البرهان بدموعه ذلك اليوم ليس مجرد انفعال لحظي متصنع ، بل خط سياسي وأخلاقي يقول إن السودان يُبنى بالعطف كما يُحمى بالقوة، وإن من يقف مع شعبه بهذا الصدق لن تطيح به رياح الفوضى مهما اشتدت.
إنّ زيارة الدبّة كانت درساً، وبكاء البرهان كان عنواناً كبيراً .. أنّ الدولة تقف هنا، بين شعبها، لا تهرب من المأساة، ولا تتوارى خلف جدران القرار. هنا فقط في هذه الأرض البكر ينتصر السودان، لأن العلاقة بين قيادته وشعبه لا يصنعها السلاح وحده، بل تصنعها الدموع حين تنطق بالحقيقة. Elhakeem.1973@gmail.com
