في 14 سبتمبر 2025، أصدر بنك السودان المركزي منشورًا جديدًا (رقم 14/2025) يقضي بحصر شراء الذهب المنتج من التعدين الأهلي وذهب شركات مخلفات التعدين على البنك المركزي وحده أو من يفوضه، مع قصر حق التصدير على البنك المركزي فقط، ومنع أي شخص طبيعي أو معنوي من ممارسة التصدير. وحدد المنشور أن تتم المشتريات وفق الأسعار العالمية والسعر السائد محليًا، عبر شركة مصفاة السودان للذهب أو الوكلاء المفوضين منها.
هذا القرار يطرح تساؤلات عديدة حول أهدافه وآثاره المحتملة على الاقتصاد السوداني، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية المعقدة التي تعيشها البلاد.
أولًا: أهداف القرار
المنشور يستهدف بالدرجة الأولى:
السيطرة على مورد استراتيجي يمثل المصدر الأهم للنقد الأجنبي بعد تراجع صادرات النفط.
تقليل التهريب الذي ظل يستنزف أكثر من 70% من إنتاج الذهب وفق تقديرات غير رسمية.
تجميع حصائل الصادر داخل البنك المركزي لزيادة احتياطاته ودعم استقرار سعر الصرف.
توحيد منفذ الشراء والتصدير لضبط السوق وتحسين الشفافية في الكميات المنتجة والمصدرة.
ثانيًا: الفرص المحتملة
إذا تمكن البنك المركزي من توفير سيولة كافية للشراء الفوري من المنتجين، فقد ينجح في جذب كميات معتبرة من الذهب للأسواق الرسمية.
التصدير عبر المصفاة قد يعزز سمعة السودان كمصدر رسمي ومعتمد، مما يزيد الثقة في الذهب السوداني عالميًا.
على المدى القصير، يمكن أن يؤدي القرار إلى تخفيف الضغط على سعر الصرف عبر زيادة المعروض من العملات الأجنبية.
ثالثًا: التحديات والمخاطر
لكن التجربة السودانية السابقة مع احتكار البنك المركزي لشراء الذهب تكشف عن عدة مخاطر:
فجوة السعر المحلي والعالمي: غالبًا ما كان السعر المحلي يتجاوز السعر العالمي بسبب عمولات الوكلاء، مما يدفع المنتجين إلى التهريب.
ضعف السيولة: إذا عجز البنك عن الدفع النقدي السريع، فسيفضل المنتجون البيع عبر السوق الموازي.
إحباط التعدين الأهلي: الذي يعتمد على العائد الفوري، وقد يرى في القرار عائقًا أمام أرباحه.
الفساد وضعف الحوكمة: إذ إن الاعتماد على جهاز إداري مترهل قد يؤدي إلى تسرب جزء من العائدات وعدم دخولها بالكامل إلى خزائن الدولة.
رابعًا: مقارنة بالتجارب السابقة
ليست هذه المرة الأولى التي يحاول فيها بنك السودان المركزي احتكار الذهب. ففي الفترة بين 2012 و2020 تبنى البنك سياسات مشابهة، لكن النتائج كانت سلبية في معظمها:
ارتفعت أسعار الذهب في السوق المحلي أعلى من السعر العالمي نتيجة هوامش الوكلاء، وهو ما أدى إلى انتعاش التهريب عبر الحدود.
فشل البنك في توفير السيولة الكافية للشراء، ففضل المنتجون البيع للتجار والسوق الموازي.
ضاعت على الدولة مليارات الدولارات من عائدات الذهب، إذ تشير تقديرات غير رسمية إلى أن أكثر من ثلثي الإنتاج لم يدخل عبر القنوات الرسمية.
هذه التجارب توضح أن المشكلة ليست في القرارات التنظيمية وحدها، وإنما في التنفيذ والحوكمة والشفافية.
خامسًا: الآثار المتوقعة
على المدى القصير: قد يجمع البنك المركزي كميات جيدة من الذهب ويصدرها، مما يوفر له موارد تعزز موقفه النقدي.
على المدى المتوسط والطويل: من المرجح أن تنشأ سوق موازية أكثر نشاطًا، مع عودة التهريب بقوة إذا استمرت فجوة الأسعار وانعدمت الثقة بين المنتجين والبنك المركزي.
على الاستثمار الأجنبي: قد ترى الشركات العاملة في قطاع الذهب أن القرار يحد من حرية البيع ويجعلها رهينة سياسات البنك المركزي، ما يقلل من جاذبية السودان للاستثمار.
سادسًا: سيناريو النجاح والتوصيات العملية
رغم التحديات، يمكن للمنشور أن يحقق نجاحًا نسبيًا إذا توفرت الشروط التالية:
تطبيق آلية سعر مرن:
على البنك المركزي شراء الذهب وفق سعر السوق الحقيقي مضافًا إليه حوافز صغيرة، بحيث لا يجد المنتجون مصلحة في التهريب.
توفير سيولة نقدية فورية:
نجاح السياسة مرهون بقدرة البنك على الدفع السريع للمعدنين الأهليين، الذين يعتمدون على العائد اليومي.
إشراك القطاع الخاص:
يمكن السماح لشركات وطنية مرخصة بالشراء نيابة عن البنك المركزي، مع إخضاعها لرقابة صارمة، ما يخفف العبء الإداري والمالي على البنك.
تقوية الحوكمة والشفافية:
نشر بيانات شهرية عن حجم الذهب المشتَرى والمصدَّر، بما يعزز ثقة المنتجين والمستثمرين في النظام الجديد.
دور أكبر لمصفاة السودان للذهب:
عبر تطوير قدراتها الفنية والتجارية لتصبح مركزًا إقليميًا، بحيث تستفيد الدولة من القيمة المضافة بدل الاكتفاء بتصدير الخام.
حرية التصدير بضمانات مالية:
تؤكد تجارب الدول المجاورة مثل غانا وتنزانيا وإثيوبيا أن نجاح السياسة الكلية في تصدير الذهب يعتمد على إتاحة حرية التصدير للقطاع الخاص مع فرض ضمانات قوية مثل خطابات ضمان وشيكات مصرفية تغطي كامل قيمة الذهب المُصدَّر.
هذا النموذج يحقق التوازن بين حماية الدولة لحقوقها وتشجيع المنافسة والشفافية.
كما يقلل من البيروقراطية ويزيد من دخول عائدات الصادر عبر الجهاز المصرفي.
خاتمة
يمكن القول إن منشور بنك السودان المركزي رقم (14/2025) يمثل محاولة جديدة لإعادة فرض سيطرة الدولة على مورد الذهب، وهو هدف مشروع بالنظر إلى الأوضاع المالية والنقدية الحرجة. لكن نجاح هذه السياسة يتوقف على توفير سيولة كافية للشراء، إغلاق منافذ الفساد، وتطبيق سعر عادل يعكس القيمة الحقيقية للذهب.
وإذا أراد السودان أن يستفيد من تجاربه وتجارب جيرانه، فإن الطريق الأمثل هو دمج سيطرة الدولة مع حرية التصدير المنظمة بضمانات مالية، بما يحفظ موارد البلاد ويعزز ثقة المنتجين والمستثمرين. عندها فقط يمكن للذهب أن يتحول من مورد مفقود بسبب التهريب إلى رافعة حقيقية لاستقرار الاقتصاد السوداني. saeed.abuobida5@gmail.com