السبت, سبتمبر 27, 2025
الرئيسيةمقالاتمحنة الشعب بين التجلي والانكسار: جدلية الفرد والجماعة ...

محنة الشعب بين التجلي والانكسار: جدلية الفرد والجماعة د. الهادي عبدالله أبوضفائر

ليست محنة الشعوب دائماً انعكاساً للفقر الظاهر أو الحروب الدامية أو الأزمات السياسية المتلاحقة، فكل هذه مجرد أعراض لمرض أعمق يكمن في الداخل. هناك، في أعماق الوعي، يعتريه اضطراب خفي، وتنهار علاقة الجماعة بذاتها في تشظٍّ صامت وانقسام مستتر يُضعف تماسكها ويهزّ بنيانها من الداخل. منذ أن ارتدت الدولة السودانية ثوبها الحديث، ظلت هذه المحنة قائمة بصورة مركّبة تتجاوز حدود الاقتصاد والسياسة لتصل إلى جوهر الإنسان ذاته. هنا يظهر الفرد المأزوم، المتأرجح بين شعاراته وأحلامه السامية، وما يمارسه من أفعال تكشف هشاشتها سريعاً، وتفضح زيفها بلا هوادة. أما الشعب، فمتردد بين شوق صادق لوطن جامع يحتضن الجميع، وبين انشداد عنيد لمصالح ضيقة وروابط عصبية، تهدد ذوبان ذلك الحلم العظيم وإطفاء وهجه.

في لحظات التجلي الكبرى، يسطع الفرد السوداني كجمرٍ متقدٍ، مخلصاً، قادراً على التضحية، مشبعاً بالأمل وكأن بين يديه مفاتيح الحل. غير أنّ ساعة الامتحان تكشف هشاشة هذا البريق، فإذا به يعود أدراجه إلى حضن القبيلة، أو دفء الطائفة، أو ضيق الجغرافيا، أو عصبيةٍ قديمة تشدّه إلى الوراء. هذه الازدواجية ليست طارئة، بل هي نتاج تاريخ طويل من التشكل الاجتماعي والسياسي، حيث ظل الإرث القبلي والطائفي والاجتماعي متداخلاً مع المشروع الوطني الناشئ، فلم يُتح للفرد أن يعرّف نفسه خارج تلك القيود، ولا أن يرى ذاته حرّاً داخل دولة عادلة. وكما قال هيغل. (الفرد ليس سوى انعكاس للروح الكلية لشعبه). وإذا صحّ هذا القول، فإن مأزق الفرد السوداني ليس معزولاً، بل هو المرآة التي تعكس مأزق الشعب بأسره، يمضي بين الحلم بوطن جامع، والارتداد المستمر إلى ملاذاته القديمة.

تتكرر الحكاية على مستوى الجماعة بوضوح أكبر؛ فالشعب السوداني قدّم ثورات عظيمة أسقطت أنظمةً كان يُظن أنها عصيّة على الزوال. لكن لحظة البناء السياسي تحولت إلى عثرة، إذ عادت القوى إلى لعبة المحاصصة الضيقة، تقسم الوطن كغنيمة على الولاءات لا الكفاءات، فتبددت دماء الشهداء في مكاسب صغيرة بدل أن تكون منصة لوطن عادل. وهكذا تتكرر الدورة: ثورة وتضحيات، ثم آمال تنكسر عند صراعات النخب وضيق أفقها. وهو مشهد يشبه ما عاشته فرنسا بعد ثورتها الكبرى، حين سالت الدماء باسم الحرية والمساواة، ثم انقلبت الثورة على نفسها قبل أن تهتدي إلى مسارٍ جديد. لكن الفارق الجوهري أنّ فرنسا استطاعت، بعد عقودٍ من الألم والتجربة، أن تُحوّل تناقضاتها إلى أساسٍ لدولة حديثة، بينما بقي السودان يتأرجح داخل حلقة مفرغة، كأنّه أسيرُ ذاكرةٍ لا تعرف الاكتمال، ولا تزال تبحث عن نقطة عبور إلى المستقبل.

خطورة هذه الحيرة أنّها جعلت الفاصل بين ما هو وطني وما هو سياسي ينهار انهياراً كاملاً. كل ما هو سياسي يُغلّف بلبوس وطني، وكل ما هو وطني يُختزل في لعبة السياسة. هكذا ابتلع السياسي الوطني، وضاع الوطن بين خطاب النخب ومصالحها. فإذا تأملنا تجارب دول أخرى كجنوب أفريقيا، نجد أن تجاوز مثل هذه اللحظة لم يكن ممكناً إلا عبر مشروع وطني أعلى من الصراعات الحزبية، مشروع حملته رموز مثل نيلسون مانديلا، الذي أعاد تعريف السياسة كخدمة للوطن، لا كغنيمة للفئة الغالبة.

في السودان، لم يتحقق بعد هذا التحوّل، وظلّ الوطن رهينة التناقضات. غير أن الحيرة ليست قدراً أبدياً، بل يمكن أن تكون لحظة ولادة لوعيٍ جديد. فالحيرة، في معناها الفلسفي، هي إدراكٌ لغياب الطريق، لكنها أيضاً بداية البحث عن طريق آخر. إنّها كما وصفها سورين كيركغارد. (بوابة الحرية، لأنها تُرغم الإنسان على الاختيار). والسودان، إذ يعيش اليوم حيرته الكبرى، يقف أمام بوابة حرية تاريخية. إما أن يستسلم لدورته المأزومة، أو أن يخلق وعياً جديداً يؤسس لعقدٍ اجتماعي مختلف.

ولعلّ بداية الخروج من هذا المأزق تكمن في إعادة تعريف الوطنية بما يتجاوز حدود السياسة. الوطنية ليست شعاراً يُرفع في الساحات، بل ممارسة يومية تتجلى في العدالة، وفي احترام القانون، وفي المساواة بين المواطنين. والسياسة، إن لم تُبنَ على هذا الأساس، تتحول إلى عبء يبتلع الوطن. كما أنّ العدالة، بمفهومها الانتقالي والتاريخي، هي الشرط الأول لأي وحدة وطنية. فالبلاد التي تنكّرت لضحاياها ولجراحها القديمة لم تعرف سلاماً، بينما الأمم التي واجهت ذاكرتها بصدق، كألمانيا بعد النازية أو رواندا بعد الإبادة، استطاعت أن تفتح صفحة جديدة تُبنى على الإنصاف لا على النسيان.

وهكذا يصبح الخروج من الحيرة ممكناً حين نضع الوطن فوق السياسة، وحين يتحوّل وعي الفرد من انتماءٍ ضيق إلى انتماءٍ جامع، وحين تتحوّل طاقة الشعب من الانفعال ورد الفعل إلى المبادرة وصناعة المصير. عندها فقط يمكن للسودان أن يتجاوز دورته المأزومة، ليصير وطناً يعرف نفسه، وأمةً قادرة على رسم طريقها، لا في خريطة الأرض وحدها، بل في خريطة الوعي والتاريخ معاً.
‏.23/اغيطس2025م

abudafair@hotmail.com

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات