في وقت يسابق فيه الاقتصاد السوداني الزمن لمواجهة واحدة من أخطر أزماته المالية، كشفت بيانات بنك السودان المركزي للربع الأول من العام 2025 عن صورة مقلقة: عجز تجاري بلغ 608.7 مليون دولار خلال ثلاثة أشهر فقط، ما يضع البلاد على مسار عجز سنوي قد يقترب من 2.4 مليار دولارإذا استمرت الأوضاع على ذات الوتيرة.
تبعية خطيرة للذهب والسوق الإماراتية
تُظهر الأرقام أن الذهب يمثل 63.8%من الصادرات السودانية، بينما تتجه 88% من هذه الصادرات نحو السوق الإماراتية. هذه التبعية المفرطة جعلت الاقتصاد هشا في مواجهة أي تقلب خارجي، خصوصاً بعد القيود التي طالت تجارة الذهب مع الإمارات.
في المقابل، تتجاوز فجوة النقد الأجنبي 200 مليون دولار شهرياً، وهو العامل المباشر لانهيار قيمة الجنيه السوداني. أما الواردات، فقد بلغت 1.312مليار دولار في الربع الأول، تركزت أساساً على الغذاء (29.5%) والوقود (15.7%)، ما يجعل أي تخفيض للعملة محفوفاً بمخاطر تضخمية قاسية.
التشخيص الدقيق: الصادرات، الواردات والمخاطر
الصادرات – اعتماد مفرط وضعف القيمة المضافة
خلال الربع الأول من 2025، بلغت قيمة الصادرات السودانية نحو 704.1 مليون دولار، منها 449.5 مليون دولار من الذهب فقط، أي ما يعادل 63.8% من إجمالي الصادرات. أما الصادرات غير الذهبية، مثل الحيوانات الحية والسمسم والصمغ العربي، فقد بلغت مجتمعة حوالي 254.6 مليون دولار فقط، ومعظمها يُصدر خامًا دون قيمة مضافة تُذكر.
تُظهر هذه البيانات مخاطر هيكلية واضحة:
- اعتماد شبه كامل على السوق الإماراتية، التي تمثل 88% من صادرات الذهب، مما يجعل الاقتصاد عرضة لأي توتر أو قيود تجارية.
- التهريب الواسع للذهب بسبب الفجوة السعرية بين السعر المحلي وسعر بورصة لندن (LBMA)، ما يقلل من العائدات الرسمية.
- ضعف التنويع في الصادرات، إذ إن معظم السلع غير الذهبية خامة أو قليلة القيمة المضافة، ما يضعف القدرة على سد العجز التجاري من مصادر أخرى.
الواردات – فاتورة مرتفعة ومخاطر على الأمن الغذائي والطاقة
بلغت فاتورة الواردات في الربع الأول 1.312 مليار دولار، موزعة بين سلع استراتيجية وغير استراتيجية.
• السلع الاستراتيجية غير القابلة للتقليص بلغت 696.8 مليون دولار، وتشمل الغذاء (29.5% من إجمالي الواردات)، الوقود (15.7%)، والأدوية، أي أن أي اضطراب في تدفقها يهدد الأمن الغذائي والصحي والطاقي.
• أما السلع غير الاستراتيجية، مثل الأسمنت، الحديد، السيارات والسلع المصنعة، فقد بلغت 615.2 مليون دولار، ويمكن تقليصها جزئيًا عبر رسوم أو قيود تنظيمية، لكن ذلك يصطدم بمصالح مستوردين نافذين.
هذا التركيب يُظهر اختلالًا هيكليًا مزدوجًا: الاعتماد على الذهب كمصدر رئيسي للصادرات، مقابل حاجة مستمرة لواردات أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، ما يزيد هشاشة الاقتصاد أمام أي أزمة في النقد الأجنبي أو تعطّل سلاسل الإمداد.
قرارات حكومية غير كافية
ورغم أن الحكومة أعلنت حزمة من 10 إجراءات لمكافحة التهريب وتنظيم تجارة الذهب عبر منصة رقمية وتوحيد الشراء، إلا أن هذه القرارات – لن تنجح وحدها في إنقاذ الموقف.
• صحيح أنها قد تمنع تسرب الدولارات القائمة، لكنها لا تخلق تدفقات جديدة من العملة الصعبة.
• احتكار شراء الذهب من دون تحديد سعر محفز قريب من الأسعار العالمية قد يدفع المنقبين إلى التهريب مجددًا.
• غياب الحوافز لجذب تحويلات المغتربين أو دعم صادرات غير تقليدية يترك فجوة مالية بلا علاج.
خطة الطوارئ: توليد 200 مليون دولار شهرياً
لتغطية الفجوة الشهرية البالغة 203 مليون دولار،* يقترح التقرير أربع مسارات متوازية خلال 3-6 أشهر: - تحسين عائد الذهب: فتح أسواق بديلة مثل تركيا، الهند، وسويسرا عبر عقود FOB سريعة، مع تقديم أسعار تنافسية. من المتوقع أن يسهم ذلك في زيادة العائد بنحو 50 مليون دولار شهرياً.
- تعظيم صادرات غير الذهب: تشغيل مسلخ الكدرو بكامل طاقته، توقيع عقود مع السعودية وعمان، وتجهيز السمسم والصمغ العربي للتصدير المباشر إلى الهند وأوروبا، ما يضيف نحو 30 مليون دولار شهريا و ذلك عبر انشاء و تفعيل محافظ الصادرات السلعية عبر اكثر من بنك او صناديق استثمارية .
- استقطاب تحويلات المغتربين: إصدار “سندات ادخار – مضاربة للمغتربين” بعائد 5-7%، مع إطلاق مبادرة إعمار بقيمة 2 مليار دولار لاعمار الدار ، متوقع أن يجذب حوالي 70 مليون دولار شهرياً من التحويلات الرسمية.
- خفض الواردات الانتقائي: فرض رسوم إضافية 30-50% على السيارات الفاخرة، الإلكترونيات الكمالية، والمشروبات الغازية ، والحديد والاسمنت ، مع استمرار تسهيلات الاستيراد للسلع الضرورية، مما يوفّر نحو 53 مليون دولار شهرياً.
بهذا، يُغطى الفجوة الشهرية البالغة 203 مليون دولار، وهو الهدف المالي العاجل للاستقرار النقدي.
آليات التنفيذ والمتابعة
• لجنة طوارئ تنفيذية تحت إشراف مباشر من مجلس الوزراء تعمل كغرفة عمليات دائمة:
- لجنة لعائد الذهب والصادرات، وعضوية البنك المركزي ووزارة المالية ووزارة المعادن وبورصة صادرات الذهب.
- لجنة للتحويلات والواردات، وعضوية البنك المركزي والجمارك والمغتربين.
• مؤشرات أداء (KPIs) تُراجع أسبوعياً: حجم التحويلات، عائدات الذهب، صادرات اللحوم والسمسم، وإيرادات الرسوم الجمركية.
• التواصل مع المواطنين بشفافية لتعزيز الثقة وإدارة التوقعات، مع التأكيد على أن الاستقرار لن يتحقق بين ليلة وضحاها.
كما يدعو التقرير الحكومة إلى الحصول على قروض وودائع من دول شقيقة وصديقة، إلى جانب قروض سلعية تشمل مواد بترولية وقمحًا وأدوية لتخفيف ضغط فاتورة الواردات.
الخلاصة: الأزمة كمية وليست سعرية
المشكلة ليست فقط في سعر الصرف، بل في فجوة ضخمة بين ما يدخل البلاد من دولارات وما يخرج منها مع وجود مضاربين في العملات الاجنبية. القرارات الرقابية أشبه بمحاولة سد ثقب صغير في قارب تغمره المياه، بينما المطلوب هو مضخة طوارئ لجلب تدفقات جديدة عبر الصادرات والتحويلات، مع ضبط الواردات الكمالية.
النجاح يعتمد على الإرادة السياسية وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الضيقة، مع التنفيذ السريع قبل أن تتفاقم آثار القطيعة مع الإمارات وتظهر بشكل أوضح في بيانات الربع الرابع من 2025م. saeed.abuobida5@gmail.com .