الأربعاء, أغسطس 20, 2025
الرئيسيةمقالاتزاوية خاصة ...

زاوية خاصة نايلة علي محمد الخليفة التجديد في المؤسسة العسكرية… بين الوفاء للقديم وإفساح المجال للجديد

يُروى أن شيخاً في إحدى القرى كانت له شجرة جوافة ضخمة يستظل تحتها الناس ، وياكلون من ثمارها ، ويقولون عنها “دي البركة البتجمعنا.” ، ومع مرور السنين جفّت الشجرة وبدأت أغصانها تتساقط ، ولم تعد تثمر ، فاقترح البعض قطعها وزراعة شجرة صغيرة مكانها ، إلا أن البعض الآخر اعترضوا متعللين بقولهم: “الجوافة دي شهدت أفراحنا وأتراحنا ، وياما اكلنا منها ، كيف نقطعها؟” ، ابتسم الشيخ الذي يدعم فكرة قطعها وقال: “الذكريات باقية في قلوبنا ، لكن لو ما زرعنا الجديد اليوم ، بكرة أولادنا ما بيلقوا ظل ولا ثمر.” ، فشنو لو ما الجيش أحال بعض ضباطه للتقاعد بكرة مابنلقى الجيش البحمينا.

هذه الحكاية تشبه ما يحدث في القوات المسلحة فالإحالات للمعاش والترقيات ليست حدثاً طارئاً ، وإنما هي سنة الحياة والتجديد ، الجيش مثل شجرة الجوافة ، يظل الناس أوفياء لجذورها العميقة، وثمارها الطيبة ، لكنهم يدركون أن الاستمرار يتطلب زرع الجديد لتستمر الحياة.

الإحالات والترقيات في المؤسسة العسكرية إجراء روتيني يُنفذ كل عام ، يفتح المجال للرتب الأدنى كي تترقى ، ويمهد الطريق أمام جيل جديد يتحمل المسؤولية ، وهو في جوهره تجديد للروح وبعث للحيوية داخل الجيش ، وليس انتقاصاً من مكانة من أُحيلوا.

ورغم ذلك برزت أصوات معترضة ، على الإحالات في كشف الأمس من بعض المدنيين ، لأنه شمل أسماءً بارزة ، خاصة أولئك الذين كان لهم سهم عظيم في معركة الكرامة ، لكن الإحالة لا تمحو التاريخ ، بل تزيده حضوراً في الذاكرة الوطنية ، لأن الجيش لا يتوقف عند الأفراد مهما علت منازلهم ، وإنما يقوم على عقيدة راسخة وسنة كونية هي التعاقب بالإحلال والإبدال.

في السودان ليس جديداً أن يثير كشف الإحالات جدلاً بين الناس ، ففي كل عام نحن أمام نفس المشهد ، نستدعي التاريخ ففي نهاية ثمانينيات القرن الماضي ، أُحيل عدد من القادة الذين خاضوا معارك الجنوب إلى التقاعد يومها ، ساد شعور بالمرارة لدى كثير من المدنيين الذين اعتقدوا أن المؤسسة تفرّط في رجالها ، لكن ما لبثت الأيام أن أثبتت أن الجيش لا يُبنى على الأفراد مهما كانت بطولاتهم ، بل على النظام والالتزام بسنة الإحلال والتجديد ، واليوم يتكرر المشهد مع أبطال معركة الكرامة الذين نالوا شرف مواجهة المليشيا الإرهابية ، صحيح أنهم يستحقون كل التقدير ، لكن إحالتهم لا تنزع عنهم وسام البطولة ، وإنما تفتح الطريق أمام غيرهم ليحملوا الراية ويواصلوا المسيرة .

هذه الظاهرة ليست حكراً على السودان ، بل هي أمر طبيعي في كل جيوش العالم فمصر القريبة اعتادت القوات المسلحة فيها أن تجري كل عام حركة تنقلات وإحالات تشمل قادة كباراً ، ومع ذلك لم يُنظر إلى الأمر كتقليل من شأنهم ، بل تكريماً لدورهم وتهيئة الطريق أمام جيل جديد ، كذلك تركيا يعقد الجيش التركي سنوياً مجلس الشورى العسكري الأعلى لإقرار الترقيات والإحالات ، وقد أُحيل قادة بارزون شاركوا في أصعب المعارك ، لكن المؤسسة لم تهتز لأن عقيدتها قائمة على أن الجيش أكبر من الأفراد.

الجيش السوداني مثل غيره من جيوش العالم ، يسير على سنة الحياة التناوب والتجديد ، فالذين ترقوا اليوم سيأتي يوم يُحالون فيه إلى التقاعد ، لتستمر الدورة بلا انقطاع ، الإحالة إذن ليست نهاية المطاف ، بل بداية فصل جديد في حياة الضابط ، يظل فيه رمزاً في ذاكرة الوطن وقدوة لمن يأتون بعده ، أما المؤسسة العسكرية، فتبقى صامدة ، متجددة ، لا تتوقف على الأفراد بل تمضي برسالتها الخالدة…لنا عودة.

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات