يُروى أن شيخاً في إحدى القرى كانت له شجرة جوافة ضخمة يستظل تحتها الناس ، وياكلون من ثمارها ، ويقولون عنها “دي البركة البتجمعنا.” ، ومع مرور السنين جفّت الشجرة وبدأت أغصانها تتساقط ، ولم تعد تثمر ، فاقترح البعض قطعها وزراعة شجرة صغيرة مكانها ، إلا أن البعض الآخر اعترضوا متعللين بقولهم: “الجوافة دي شهدت أفراحنا وأتراحنا ، وياما اكلنا منها ، كيف نقطعها؟” ، ابتسم الشيخ الذي يدعم فكرة قطعها وقال: “الذكريات باقية في قلوبنا ، لكن لو ما زرعنا الجديد اليوم ، بكرة أولادنا ما بيلقوا ظل ولا ثمر.” ، فشنو لو ما الجيش أحال بعض ضباطه للتقاعد بكرة مابنلقى الجيش البحمينا.
هذه الحكاية تشبه ما يحدث في القوات المسلحة فالإحالات للمعاش والترقيات ليست حدثاً طارئاً ، وإنما هي سنة الحياة والتجديد ، الجيش مثل شجرة الجوافة ، يظل الناس أوفياء لجذورها العميقة، وثمارها الطيبة ، لكنهم يدركون أن الاستمرار يتطلب زرع الجديد لتستمر الحياة.
الإحالات والترقيات في المؤسسة العسكرية إجراء روتيني يُنفذ كل عام ، يفتح المجال للرتب الأدنى كي تترقى ، ويمهد الطريق أمام جيل جديد يتحمل المسؤولية ، وهو في جوهره تجديد للروح وبعث للحيوية داخل الجيش ، وليس انتقاصاً من مكانة من أُحيلوا.
ورغم ذلك برزت أصوات معترضة ، على الإحالات في كشف الأمس من بعض المدنيين ، لأنه شمل أسماءً بارزة ، خاصة أولئك الذين كان لهم سهم عظيم في معركة الكرامة ، لكن الإحالة لا تمحو التاريخ ، بل تزيده حضوراً في الذاكرة الوطنية ، لأن الجيش لا يتوقف عند الأفراد مهما علت منازلهم ، وإنما يقوم على عقيدة راسخة وسنة كونية هي التعاقب بالإحلال والإبدال.
في السودان ليس جديداً أن يثير كشف الإحالات جدلاً بين الناس ، ففي كل عام نحن أمام نفس المشهد ، نستدعي التاريخ ففي نهاية ثمانينيات القرن الماضي ، أُحيل عدد من القادة الذين خاضوا معارك الجنوب إلى التقاعد يومها ، ساد شعور بالمرارة لدى كثير من المدنيين الذين اعتقدوا أن المؤسسة تفرّط في رجالها ، لكن ما لبثت الأيام أن أثبتت أن الجيش لا يُبنى على الأفراد مهما كانت بطولاتهم ، بل على النظام والالتزام بسنة الإحلال والتجديد ، واليوم يتكرر المشهد مع أبطال معركة الكرامة الذين نالوا شرف مواجهة المليشيا الإرهابية ، صحيح أنهم يستحقون كل التقدير ، لكن إحالتهم لا تنزع عنهم وسام البطولة ، وإنما تفتح الطريق أمام غيرهم ليحملوا الراية ويواصلوا المسيرة .
هذه الظاهرة ليست حكراً على السودان ، بل هي أمر طبيعي في كل جيوش العالم فمصر القريبة اعتادت القوات المسلحة فيها أن تجري كل عام حركة تنقلات وإحالات تشمل قادة كباراً ، ومع ذلك لم يُنظر إلى الأمر كتقليل من شأنهم ، بل تكريماً لدورهم وتهيئة الطريق أمام جيل جديد ، كذلك تركيا يعقد الجيش التركي سنوياً مجلس الشورى العسكري الأعلى لإقرار الترقيات والإحالات ، وقد أُحيل قادة بارزون شاركوا في أصعب المعارك ، لكن المؤسسة لم تهتز لأن عقيدتها قائمة على أن الجيش أكبر من الأفراد.
الجيش السوداني مثل غيره من جيوش العالم ، يسير على سنة الحياة التناوب والتجديد ، فالذين ترقوا اليوم سيأتي يوم يُحالون فيه إلى التقاعد ، لتستمر الدورة بلا انقطاع ، الإحالة إذن ليست نهاية المطاف ، بل بداية فصل جديد في حياة الضابط ، يظل فيه رمزاً في ذاكرة الوطن وقدوة لمن يأتون بعده ، أما المؤسسة العسكرية، فتبقى صامدة ، متجددة ، لا تتوقف على الأفراد بل تمضي برسالتها الخالدة…لنا عودة.