إختلاف النظم السياسية الديمقراطية تجده من دولة إلي أخرى بسبب أختلاف الثقافات و الأعراف و التقاليد و العقائد و كل دولة لها تجربتها الخاصة في الديمقراطية.. السودانيون كانوا مركزين على ديمقراطية “ويست منيستر” و ما زالوا على ذلك، لآن الذين وضعوا قواعدها في البلاد بريطانيين، و كان التعليم الحديث الذي أسسه المستعمر محدودا بسبب حاجة المستعمر إليه، و النخبة التي التي تخرجت من كلية غردون كان اتجاهها واحدا بحسب اللغة الأخرى التي تعلمونها في مؤسسات التعليم الحديث “الانجليزية” و التي كانت تؤهلهم لقراءة الصحف و الكتب التي تأتي من بريطانيا، الأمر الذي جعلهم ذوي اتجاه واحد في القراءات و في الوعي السياسي، الآن السودانيين منتشريين في عدد من دول العالم و خاصة الدول الغربية الديمقراطية، و أكتشفوا أن الديمقراطية تعني التبادل السلمي للسلطة من خلال انتخابات في مواقيت محددة و معلومة لا يمكن تجاوزها، و أن الشعب هو الذي يقع عليه عبء الإختيار من المرشحين أن كانوا حزبيين أو مستقلين.. و يتيح للسودانيين قراءات مختلفة في عملية الديمقراطية و تطبيقاتها، و النماذج متعددة في النظم السياسية.. رئاسية و برلمانية و مختلطة…
هناك قواعد في المجتمع لا يمكن تجاوزها تتعلق بالعقائد و الأعرأف و التقاليد، و هي التي تميز كل مجتمع عن الأخر، و لا يمكن أن تفرض معتقدات شعب على الآخرين حتى يصبحوا ديمقراطيين، هذا قصور مفاهيمي تحاول مجموعات مستلبة فاقدة للآهلية أن تفرضه على الأخرين تحت دعاوي و مصطلحات كثيرة مستلفة من مجتمعات مغايرة.. هؤلاء هم يشكلون عوائق متعددة أمام عملية التحول الديمقراطي في البلاد.. نحن مجتمع فيه العديد من الإشكاليات التي تحتاج إلي معالجات منطقية و حوارية بعيدا عن مصطلحات تدعو للعنف مثل الثورية و الإقصاء و محاولة إثارة النعرات العنصرية و الجهوية و المناطقية، كلها إشكاليات موجودة داخل المجتمع، و يجب أن تلعب الدولة و الأحزاب و منظمات المجتمع المدني الآخرى دورا كبيرا في معالجتها، لكن للأسف العديد من النخب تحاول استثمار هذه الإشكليات و توظيفها لمكاسب شخصية و شللية محدودة.. و تعمل بعض النخب على تهيجها و رفعها كشعارات و مباديء لتحقيق منها مصالح لأفراد أو مجموعات غير ديمقراطية..
الإشكاية ألأخرى الأهم: أن النخب التي تتشدق بالديمقراطية، و تعتقد إنها الأكثر وعيا من الآخرين، و هي وحدها التي يجب أن ترسم ملامح الديمقراطية، و أنهم وحدهم دعاة المدنية، و يحاولون أن يفرضوا شروطهم على العملية السياسية، هم يتعاملون بذات الثقافة الشمولية التي خلفتها تلك النظم و لا يمكن بالثقافة الشمولية الوصول للديمقراطية.. هؤلاء يبحثون عن مصالح ضيقة متعلقة بكيفية وصولهم للسلطة، و يمثلون دورا سالبا في عملية التحول الديمقراطي، و التي تحتاج إلي وعي جديدة و قراءة جديدة للواقع الاجتماعي، و كيفية معالجة مشاكله.. أن عملية التغيير ليس قاصرة على المسميات و المصطلحات المستلفة لتزيين الخطابات السياسية.. أنما هي تحتاج إلي أفكار و ممارسات تطبيقية، تعلوا من قيم الحوار السياسي و خاصة بين التيارات الفكرية المختلفة في المجتمع.. و تعلو من قيم التسامح و العمل المشترك بين المكونات، و هي الأدوات التي تنتج الثقافة الديمقراطية في المجتمع.. أن العملية الديمقراطية يجب أن تبدأ من قاع المجتمع إلي أعلاه، و تثقيف المواطنين بحقوقهم و واجباتهم، و حسهم على المشاركة الفاعلة في لجان الأحياء و في النقابات و في الأندية الرياضية و الثقافية و التبادل السلمي عبر الانتخابات في كل هذه المكونات، و يحرصوا أن لا يتم أنتخابات اعضاء بعينهم بصورة مستمرة حتى تبدو العملية أحتكارية، لآن التغيير في القيادة هو الذي يجذب الآخرين على المشاركة و يرسي أسس النزاهة و الشفافية.. و أن القيادات التي تمكث طويلا في مواقعها هي عرضة بنسبة 80% للفسادة و عدم الشفافية.. أما التغيير هو يدفع بالعديد من الأشخاص الذين لهم قدرات إبداعية لكي يسهموا في تطوير العمل المنتج، و الناهض بالمجتمع كخطوة لبناء صروح التنمية بكل أنواعها في البلاد خاصة التنمية البشرية أساس النهضة..
أن محاولة تغبيش الوعي الجماهيري بإدخال مصطلحات في غير مقاصدها تربك العملية السياسية، أن ثورة أكتوبر و انتفاضة إبريل و ثورة ديسمبر جميعها هي مسيرات جماهيرية سلمية استطاعت أن تسقط نظم شمولية للحزب الواحد، ما عدا أكتوبر أسقت نظاما عسكريا صرفا، و كانت سلمية؛ لأن الجماهير اعتمدت على الأضراب السياسي و المسيرات في الشوارع رافعة شعارات التغيير.. خاصة في التغيير الآخير كسب احترام العالم لسلميته.. و هو تغيير ليس له أية علاقة بمصطلح الثورة و الثورية.. لأنها مصطلحات داعية للعنف.. فالمهدي ثورة لأنها كانت مسلحة.. ديسمبر لم تكن مسلحة.. فالثورة أداتها العنف كما حدث في الثورة الفرنسية و الثورة الأمريكية.. أية تغيير يصاحبه العنف هو تغيير ثوري، أما التغييرات السلمية هي التي تؤسس لعملية الديمقراطية… و الذين يحاولون أن يجعلوا خطاباتهم ثورية ليس لهم علاقة مطلقا بالديمقراطية.. هؤلاء يجب أن يقدموا لنا أطروحاتهم الفكرية أين تلتقي الثورية بالديمقراطية و يعطوننا الأمثلة من تاريخ نضالات الشعوب..
أن الديمقراطية لكي ترسي مبادئها في المجتمع تأتي عبر الحوارات المفتوحة بين التيارات الفكرية المختلفة، و ليس محاولة فرض شروط على الحوار و المشاركين فيه، لأنها تتشكل بالقناعات المشتركة التي ترسي مباديء الدستور الذي يجب أن يحترم من الجميع، و أيضا احترام القوانين التي تتحول إلي سلوك في المجتمع.. أما محاولة الجري وراء الخارج لكي يهندس لنا العملية السياسية و يشكل رافعة سلطة للبعض، هذه ليس لها علاقة بالديمقراطية، لها علاقة فقط بحتكارية السلطة التي تناقض مع المباديء الديمقراطية.. أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية على الأقلية مع إعطاء الأقلية الحرية الكامل لكي تقنع الأغلبية برأيها لكي تغير المعادلة السياسية في الانتخابات المقبلة.. لكن رفع الشعارات دون سند معرفي لها و مقاصدها تعد إعاقة حقيقية لعملية التحول الديمقراطي.. و الذي يملك رؤية أخرى يقولها بمنهج فكري بعيدا عن استخدام الشعارات… نسأل الله حسن البصيرة…