*في السودان، لم يعد انهيار الجنيه حدثًا اقتصاديًا عابرًا، بل أصبح قضية وطنية تُناقش في كل مجلس ومناسبة، وكل صباح جديد يحمل لنا رقمًا جديدًا لسعر صرف الدولار، وأملًا يتضاءل في استقرار اقتصادي قريب. فهل الجنيه ضحية مضاربين فقط؟ أم أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير؟
أولًا: الجنيه ليس وحده… الميزان التجاري يئن
كان الميزان التجاري السوداني يسجل عجزًا سنويًا يزيد عن 3.5 مليار دولار خلال العقد السابق للحرب، نتيجة ضعف الصادرات وارتفاع فاتورة الواردات. ومع الحرب، تفاقم الوضع أكثر؛ إذ تعطلت القطاعات المنتجة، وتراجعت الصادرات، بينما استمرت الواردات، خاصةً العسكرية، في الازدياد لتغذية آلة حرب الكرامة.
فهل يُعقل أن ننتج أقل مما نستهلك ونستورد، ثم نطالب الجنيه أن يصمد؟
ثانيًا: هل الذهب سلعة وطنية أم عملة ظل؟
مع التوترات الإقليمية وارتفاع أسعار الذهب عالميًا، نشطت حركة تهريب الذهب السوداني، الذي يُستخرج من أرض البلاد ويُباع في الخارج دون أن تدخل عوائده النظام المالي الرسمي. والأسوأ أنه يُستخدم أحيانًا في تمويل الواردات، وكأن السودان يُموّل نفسه من خارج نظامه المصرفي.
أين دور الدولة في ضبط هذا القطاع الاستراتيجي؟ لماذا لا يكون الذهب أداة لإنقاذ الجنيه بدلًا من أن يتحول إلى وسيلة لتهريبه وانهياره؟
ثالثًا: تحويلات المغتربين.. من الخسارة إلى الفرصة
في خضم الأزمة، تدفقت ملايين السودانيين إلى دول الجوار، لكن تحويلاتهم لم تجد طريقها عبر المصارف الرسمية، بل عبر السوق الموازي وتطبيقات غير خاضعة للرقابة. لماذا؟ لأن الثقة مفقودة في النظام المصرفي.
فهل نلوم المغترب؟ أم نعيد بناء الثقة والسياسات التي تُعيد هذه الموارد بأمان؟
رابعًا: هل نمنع الاستيراد المؤجل… أم نُنظمه؟
من القرارات التي تثير التساؤلات: منع الاستيراد عبر القبول الآجل (DA/DP). هذا النوع من التمويل يُستخدم عالميًا لتخفيف الضغط على النقد الأجنبي، لأنه يُمكّن التاجر من استيراد السلع الآن والدفع لاحقًا.
أليس من الأولى السماح به للسلع الاستراتيجية والمواد الخام؟ خاصة إذا تم ذلك تحت ضمانات مصرفية؟ هل نحن نعالج الأزمة بتجميد الأدوات المتاحة، أم بتفعيلها بعقلانية؟
خامسًا: “اعرف عميلك”… لماذا لا يبدأ الحل من داخل البنوك؟
في الوقت الذي تنتشر فيه المضاربات بالدولار عبر التطبيقات البنكية، هناك أدوات قانونية وتنظيمية قائمة لم تُفعّل بعد، مثل قاعدة “اعرف عميلك” (KYC) المطبقة عالميًا، والتي تُلزم البنوك بمراجعة نشاط العميل، مصدر أمواله، ومدى توافق دخله مع معاملاته.
تفعيل هذه الآلية داخل البنوك سيُساهم بشكل كبير في كشف الحسابات المشبوهة، وتجميد المضاربين، ومراقبة سلوكهم المالي، مما يعيد شيئًا من السيطرة على حركة النقد.
سادسًا: المحافظ التخصصية… لمَ لا نُموّل الاستيراد عبر التصدير؟
من أبرز الحلول العملية في ظل شُح النقد الأجنبي، هو إنشاء محافظ صادرات مخصصة لتمويل واردات السلع الاستراتيجية مثل الوقود، الغاز، القمح، والأدوية.
بمعنى: أن يتم توجيه عائدات صادرات الذهب، السمسم، الصمغ، والماشية مباشرة لتمويل هذه الواردات الضرورية، بعيدًا عن السوق الموازي، وبآلية شفافة تُدار بواسطة بنك السودان.
سابعًا: تحرّك الدولة للحصول على قروض سلعية بشروط ميسّرة
إلى جانب الحلول الفنية والرقابية، فإن تحرك رئاسة الدولة ورئيس مجلس الوزراء مباشرة للحصول على قروض سلعية بشروط ميسرة من دول صديقة ومؤسسات تمويلية، سيكون خطوة حاسمة في سد الفجوة. يمكن أن تشمل هذه القروض مواد بترولية وغاز ووقود وقمح، مقابل صادرات سلعية سودانية أو بضمانها، ما يوفر للبلاد احتياجاتها الحيوية دون ضغط فوري على الدولار.
الحلول والتوصيات: عقل لا عاطفة
- تفعيل قاعدة “اعرف عميلك” داخل البنوك، وربطها بقرارات تنظيمية لرصد ومنع نشاطات المضاربة المشبوهة.
- تنظيم صادرات الذهب وإخضاعها للنظام المصرفي الرسمي مع تقديم حوافز للمنتجين الحقيقيين.
- السماح بالاستيراد المؤجل للسلع الضرورية تحت ضمانات وإشراف مصرفي صارم.
- إنشاء محافظ صادرات لتمويل واردات السلع الاستراتيجية بشكل مباشر وشفاف.
- تحفيز تحويلات المغتربين بأسعار صرف تفضيلية وتسهيلات حقيقية عبر القنوات الرسمية.
- تنظيم التطبيقات البنكية والتحويلات الرقمية وتقييد استخدامها في المضاربات.
- التحرك السياسي والاقتصادي الخارجي للحصول على قروض سلعية بشروط ميسّرة لسد فجوات حيوية في الوقود والغذاء.
الخاتمة: الدولة يجب أن تبدأ.. والبنك يجب أن يراقب
لم يعد الوضع الاقتصادي يحتمل التأجيل، ولا المعالجات المجزأة. ما نحتاجه هو رؤية متكاملة تُفعّل القوانين القائمة، وتضبط الذهب، وتعيد الثقة في المصارف، وتُوظّف الصادرات بشكل ذكي.
السودان ليس بلدًا فقيرًا، لكنه بلد يحتاج لمن يدير موارده بعقل لا بعاطفة، وبمصلحة عامة لا جزئية.
فهل نبدأ اليوم؟ أم نواصل كل صباح سؤالنا التقليدي: كم انخفض الجنيه الآن؟ وكم تبقّى من قوته؟