سبع سنوات عجاف عاشها أهل السودان بلا برلمان وغاب معها صوت الجماهير ولسان الشعب ، حتى نقلت إلينا الوسائط الإعلامية خبراً .. يلوح في الأفق وأملاً جديداً بعودة المؤسسة التشريعية في السودان، في خطوة طال انتظارها وسط تحولات سياسية جسيمة، وتقلبات اجتماعية واقتصادية وأمنية ألقت بظلالها على الوطن منذ سقوط نظام الإنقاذ وحتى اندلاع حرب الكرامة.
إن غياب البرلمان عن المشهد الوطني ما كان غياباً شكلياً في هيكل الدولة، بل كان فراغًا حقيقياُ في قلب السلطة، أثّر بعمق على الأداء الحكومي وتسبب في غياب الرقيب وانعدام المحاسبة، وفتح الأبواب مشرعة للفوضى والتفرد بالقرار حيث تمركزت السلطات في أيدي أفراد لا في مؤسسات، وضاعت بين أقدام المرحلة أصوات الشعب وتطلعاته.
لقد مرت البلاد بتجربة معقدة، بدأت بانتفاضة شعبية أسقطت نظاماً دام ثلاثين عاماً، أعقبها تشكيل حكومتي حمدوك الأولى والثانية، بكل ما حفّ بهما من آمال وتحديات، ثم انزلقت البلاد إلى هاوية الصراع المسلح في ما يُعرف بـ”حرب الكرامة”، تلك الحرب التي أظهرت هشاشة البنى المؤسسية، وكشفت الحاجة الملحة لبناء دولة القانون والمؤسسات.
وفي ظل هذه الظروف، تُنقل إلينا أنباء عن تشكيل لجنة ثلاثية من قبل الفريق البرهان مهمتها التمهيد لتكوين برلمان جديد وهيئة تشريعية قومية ، وأنها باشرت مشاورات واسعة مع القوى السياسية السودانية. ولعمري، إنها خطوة ضرورية ومطلوبة في هذا التوقيت الحرج، شريطة أن لا تكون فقط توزيع جديد للنفوذ وإستنزاف للوقت ، بل نريدها تأسيس حقيقي لسلطة تمثل الشعب وتعبر عن تطلعاته وآماله في السلام والأمن والعدل ..
إن البرلمان القادم لا بد أن يكون برلماناً لكل السودانيين ، لا نخبوياً ولا فئوياً إنما برلماناً يضم أهل الحل والعقد وأولي النهى والأحلام من أصحاب الحكمة والتجربة، الذين يعرفون قدر الوطن، ويؤمنون أن البناء لا يقوم إلا على التمثيل العادل والرؤية الجامعة واحتمال الآخر .
ولا بد في هذا السياق من النظر إلى التجارب البرلمانية المشابهة في بلدان خرجت من الحروب والصراعات، فاستطاعت عبر برلمانات انتقالية أو توافقية أن ترسم خارطة طريق جديدة، وتعيد الثقة من خلالها بين المواطن والدولة، وتثّبت أركان الحكم الراشد.
وحتى يتحقق ذلك، ينبغي أن يُبنى هذا البرلمان على أسس وطنية شاملة، تشمل جميع ولايات وأقاليم السودان وقواه السياسية والاجتماعية، ويستند إلى معايير الكفاءة والنزاهة والمصلحة العامة، لا إلى المحاصصة الضيقة أو الصفقات العابرة.
إن إعادة البرلمان ليس نافلةً سياسية بل ضرورة وطنية تمليها طبيعة المرحلة، وتفرضها التحديات الجسيمة أمام الدولة السودانية، التي تتطلع إلى إعادة بناء ذاتها على قواعد الشرعية والمشاركة والتوازن.
فلنحرص، إذن، على أن يكون هذا البرلمان القادم نقطة تحول حقيقية، لا امتداداً للشلل السابق، وأن يكون سلطة شعبية فاعلة، تراقب وتشرّع وتعبّر، لا واجهة شكلية تبرر غياب الدولة. فهل نُحسن اغتنام الفرصة؟ وهل نكتب بهذه العودة بداية جديدة، لا خاتمة لتطلعاتنا؟