الأحد, يوليو 27, 2025
الرئيسيةمقالاتزاوية خاصة. ...

زاوية خاصة. نايلة علي محمد الخليفة. كامل إدريس يبدأ من الفنانين ويتجاهل الميادين

عندما يبدأ أي مسؤول سياسي أولى خطواته بعد تقلده المنصب ، لا تُقرأ حركته من باب البرتوكول فحسب ، بل تحمل رمزية عميقة تعكس أولويات المرحلة ، وتفصح عن بوصلة التوجه الذي سيسلكه لاحقاً ، وفي وضع بالغ التعقيد كوضع كالسودان ، حيث ما تزال الدماء على الأرصفة لم تجف بعد ، والجراح على جسد الوطن مفتوحة ، تصبح خطوات المسؤولين الأولى أكثر من مجرد زيارة او مجاملة.

حين غادر رئيس الوزراء السوداني كامل إدريس مدينة بورسودان ، واختار أن تكون محطته الأولى نهر النيل ، ثم حط رحاله في الخرطوم ، كان المأمول أن تبدأ جولاته بلقاء أولئك الذين مهدوا الطريق لوصوله إلى هذا المنصب ، أولئك الذين ما زالوا يرقدون على أسرة المستشفيات من ضباط الجيش ، وكتائب المقاومة ، قلاع الصمود الحقيقين لا الرمزيين.

لكن كامل إدريس اختار أن يبدأ من حيث لا يتوقع الناس زيارة الفنان القدير أبو عركي البخيت ، ولا اعتراض على زيارة فنان بمكانة عركي ، ولا ضير إن كانت تحية رمزية لأحد رموز الوجدان الوطني ، بل ربما هي زيارة خاصة لرجل يمثل له شخصياً رمزاً فنياً وروحياً ، ولكن متى ما كانت الرمزية سابقة للموقف ، فالأجدى أن تُوزن خطوات إدريس بموازين المرحلة لا العاطفة.

موقف كامل إدريس ذكرني حكاية الجماعة الماشين يعزوا دخلوا بيت البكا يرقصوا بإختصار في وقت الجراح والحداد الوطني ، لا يجدر بالرمزية أن تتقدم الصف ، ولا بالمجاملة أن ترفع صوتها على حساب الموقف.

الأولى برئيس وزراء جاء على أكتاف تضحيات جسام ، ودماء رجال عظام ، أن يقف أولاً على أسرة الجرحى، في مستشفيات الجيش والميدان ، كان من الأجدر أن يبتدر خطواته من القيادة العامة و سلاح المهندسين، والإشارة، والمدرعات، والذخيرة ، تلك القلاع التي لم تهتز رغم الزلازل ، والتي شكلت حائط الصد الأول في وجه الإجتياح الميليشياوي للعاصمة الخرطوم.

ثم ماذا عن أهالي العاصمة الذين صمدوا رغم الحصار ، والرصاص ، والرعب؟ أولئك الذين ودعوا أبناءهم شهداء أو فقدوهم تحت سياط التعذيب والتنكيل ، ألا يستحقون تحية بحجم الوطن من رئيس حكومته؟
ألا تستحق التكايا التي طبخت بصدقات البسطاء ، وأطعمت الجوعى ، ودفعت رمق الصابرين ، أن تُزار أولاً ، ولو بعبارة شكر تُدون على الجدران؟

الزيارات الرمزية لا تُلام في حد ذاتها ، ولكنها تُلام حين تأتي في التوقيت الخطأ ، متجاوزة أولويات الميدان وأصوات الشارع الجريح ، الموقف في السودان لا يزال هشاً هشاشة الرمل حين تجرفه المياه، والتوازن الوطني فيه يُبنى بالمواقف الكبيرة لا بالعلاقات الشخصية.

ولعلنا نقولها بكل صدق لو ابتدأ كامل إدريس مشواره من ميادين الصمود لا من دواوين المجاملة ، لكبر في أعين الكثيرين ، وأرسل رسالة واضحة مفادها أن حكومة ما بعد الحرب تبدأ من الميدان لا من المراسم.

في وطن مثل السودان ، لا أحد يعترض على الفن ، ولكن حين تتزاحم الجراح ، لا بد أن يسبق الموقف الصوت ، وأن تسبق الأولويات العاطفة.
فالسياسة فن الممكن، لكنها في السودان اليوم، يجب أن تكون فن الإنصاف والاعتراف أولاً….لنا عودة.

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات