غيب الموت مؤخراً الموسوعة الإبداعية مكي علي إدريس الذي التقيته أول مرة في الخليج العربي في رهط من المبدعين من أبناء المنطقة النوبية “الناطقة بالفديجة” منهم إبراهيم عبده ومندق علي الأزهري رحم الله ثلاثتهم.مكي فنان عالي المركبات الإنسانية فهو كشكول إبداع متعدد المواهب هو معلم وأديب وملحن ومؤد ورسام وخطاط وباحث في التأريخ واللغة والحضارة النوبية ومثقف مرتبط بالأرض منحاز بوعي لقضايا المنطقة النوبية سجل مواقف مشرفة ونظم روائع القصيد والألحان المعبرة عن تلكم المواقف الراسخة كما في كجبار ذائعة الصيت.
الأستاذ مكي لم ينتمي لأي حزب لكنه وكما قال عن نفسه مواطن يعبر عن القضايا التي تشغله وبوسائله الإبداعية المختلفة وهذا مما أكسبه احترام وتقدير الجميع على اختلاف مشاربهم السياسية ومنطلقاتهم الفكرية وهو ما حال دون اختطافه وتوظيفه سياسياً كما حاول بعضهم ومادرى هؤلاء أن الإبداع متعدد الألوان وان منطلقاته إنسانية وفضاءاته أرحب لاتحدها حدود.لقد ظل مكي يؤكد على حرية الاختلاف وإدارة التنوع ووحدة القضية النوبية متمثلة في الإنسان والأرض والثقافة بل ذهب ابعد من ذلك مشجعاً انخراط النوبيين في المشهد السياسي خدمة للإقليم والوطن الكبير وتلك فحوى رسالته إلي بعيد تكليفي بالوزارة قبل نحو من خمس عشرة سنة.الأستاذ مكي يحمل أفكارا تقدمية يمكن أن تسهم في الخروج من جدلية السلطة والمعارضة. وقد أسفت لما كتبه أحدهم وهو ينعي مكي واصفاً إياه بالمناهض لمشروع الحركة الإسلامية في ذم يشبه المدح.
يقول رسول حمزتوف “إذا سألوا شعباً من أنت فإنه سيقدم علماءه وكتّابه وفنانيه وموسيقييه وسياسييه وقادته العسكريين كوثائق تعريفية” لو أخذنا بمقولةالأديب الداغستاني لقدمنا مكي ضمن ثلة من مشاهير المنطقة ورموزها ومبدعيها من جيل الاستقلال وفي كل المجالات تمثيلاً لا حصرا كالعمدة محمد داود وصالح حاج وأحمد خيري وإبراهيم أحمد ونجم الدين شريف وأبو سليم وصالح محمد طاهر ومحمد خليل بتيك وداود عبداللطيف ومحمد علي عباس وعمر عثمان وحسين الالا وولولي ووردي والبلابل.ويكفي مكي فخراً أنه صاغ لحنا خالدا كرائعته “عديلة” التي صارت وسما فنيا للوطن كله لدرجة أن صيروها تراثية وكادوا أن يسقطوا اسمه وحقه الأدبي الذي كفله له قانون الملكية الفكرية. وانطلاقا من هذا واهتماما بالبحث والتوثيق ليت مشروع مكي للدراسات النوبية يرى النور وهو أفضل تكريم لجهوده في هذا المضمار.
إن عودة مكي مؤخراً لعبري لها دلالة فمنها كانت البداية وإليها النهاية وقد ألمح أحدهم إلى أن مكي قد حس بدنو أجله ونعى نفسه وهو يتغنى ب” إركق مشكلين أيقا”.وفي آخر لقاء بعيد عودته من رحلة علاجية قادته لمدينة مروي الطبية هرعنا لزيارته في بيته في عبري واستأنفنا الحوار اعتذر ووعد بزيارتنا في وادي حلفا لكن الموت كان أقرب والفجيعة كانت أعظم ولانقول إلا مايرضي ربنا..إنا لله وإنا إليه راجعون.