في الوقت الذي يُحيي فيه العالم الذكرى الأليمة لمجازر سربرنيتسا التي وقعت في يوليو من العام 1995 في البوسنة والهرسك ،حيث قتل أكثر من 8000،رجل وصبي مسلم على يد القوات الصربية ،لا يسعنا في السودان إلا أن نستحضر المأساة الجارية في دارفور وبشكل خاص في ولاية غرب دارفور (الجنينة) حيث ارتكبت انتهاكات مروعة بحق المدنيين ترقى الى مستوى الإبادة الجماعية بحسب ما أكدته تقارير الامم المتحدة ، ومنظمات حقوق الانسان.
لقد أعادت الجرائم المرتكبة في الجنينة إلى الأذهان مشاهد سربرنيتسا من حيث النمط المنهجي للقتل على أساس الهوية العرقية وإستهداف فئات محددة من السكان ،على يد قوات الدعم السريع المنشقة والمتمردة على القوات المسلحة السودانية ،حيث ارتكبت هذه القوات جرائم قتل جماعي ،وتهجير قسري،وحرق،
وبث الرعب بين المدنيين ،وصولا الى اغتيال والي غرب دارفور في حادثة غير مسبوقة تجسد مدى الوحشية التي رافقت تلك الهجمات، وتعكس حجم الخطر الداهم على السلم الأهلي ووحدة الدولة السودانية وإستقرارها.
ورغم الإدانات الدولية المتكررة ،فإن رد فعل المجتمع الدولي حتى الآن لا يزال باهتاً ومقصراً عن اتخاذ خطوات فعالة تتناسب مع ما يجري على الارض مما يعيد تكرار ذات الفشل الذريع الذي صاحب مجذرة سربرنيتسا قبل ثلاثة عقود.
وفقاً لإتفاقية الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948،التي أنضم إليها السودان في عام 2003،دون تحفظات فإن على الدول الاطراف واجباً قانونياً لا يقتصر على المعاقبة على جريمة الإبادة الجماعية فحسب،بل يشمل أيضاً منع وقوعها من الأساس ،فضلا على أن المادة (9) من الاتفاقية تتيح للدول اللجوء الى محكمة العدل الدولية للفصل في النزاعات المتعلقة بتفسير أو تطبيق الاتفاقية ،إلا أن اشتراط صدور قرار من محكمة دولية لتصنيف الفعل على أنه إبادة جماعية قد يعرقل التحرك السريع والفاعل،وهو أمر يجب النظر فيه.
لقد أصبح من الضروري اليوم مراجعة آليات التصنيف والتحرك الدولي ،لتكون أكثر مرونة وإستجابة للوقائع الميدانية والحقائق المؤكدة.
ويستند السودان في مقاربته لهذا الواقع إلى نصوص دستوره
الإنتقالي التي تكرس مبادئ المواطنة والمساواة وتجرم كل أشكال التمييز والتحريض على الكراهية والعنف ، غير أن ما يشهده الواقع الامني في ظل تمرد قوات الدعم السريع ،يبرز الحاجة الملحة إلى تفعيل هذه القوانين على نحو جاد وفعال ،لمنع الافلات من العقاب وضمان عدم تكرار الجرائم مستقبلا.
كما تتضمن التشريعات الوطنية أحكاماً واضحة لتجريم العنصرية ،
والتحريض على الكراهية ،بما في ذلك عبر وسائل التواصل الإجتماعي التي تحولت إلى أدوات فعالة لنشر خطاب الكراهية والتحريض على العنف في العصر الرقمي.
إن ما حدث في الجنينة لم يكن مجرد صراع قبلي أو اضطراب أمني عارض ،بل جريمة منظمة أستهدفت مكونات سكانية بعينها ، ترقى من حيث المعايير الدولية إلى جريمة الإبادة الجماعية مما يفرض على المجتمع الدولي ،التحرك العاجل من خلال
المطالبة بوقف فوري لجميع أشكال الدعم الخارجي لقوات الدعم السريع المتمردة
التأكيد على ضرورة محاسبة المسؤولين عن التخطيط والتنفيذ لهذه الجرائم
دعم جهود العدالة الانتقالية ،وجبر ضرر الضحايا
تعزيز الجهود الرامية إلى مكافحة خطاب الكراهية والعنف العرقي
ولا يمكن لذكرى سربرنيتسا أن تُستحضر بصدق، مالم تُقرن بمواقف حازمة تجاه الفظائع الجارية في أماكن أخرى من العالم،وفي مقدمتها السودان،ويجب أن تكون مأساة الجنينة حافزاً للمجتمع الدولي ليتجاوز فشله السابق ،ويقف الى جانب الشعب السوداني في معركته من أجل العدالة والسلام والمساءلة.
يؤكد السودان من خلال الوثيقة الدستورية للفترة الإنتقالية أن الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود الدولية لحقوق الإنسان والتي صادق عليها ،تُعد جزءاً لايتجزأ من الإطار
الدستوري الوطني ،ويجدد التزامه التام بأحكام إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها ويؤكد رغبته الصادقة للتصدي لجميع أشكال العنصرية والتطرف ، والعمل على تهيئة بيئة تشجع الحوار ،وتمنع التحريض على العنف أو العداء ونشر الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية الدينية .
ولابد من ضرورة مراجعة موقف الامم المتحدة،الذي يشترط صدور قرار عن محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية لتصنيف بعض الحالات ضمن خانة الابادة الجماعية،وينبغي التذكير بالمادة (9) من الإتفاقية ،والتي تُتيح للدول الاطراف التحفظ على الإحالة الى محكمة العدل الدولية ،لما يشكله هذا الشرط من عوائق أمام إنفاذ الإتفاقية وتحقيق مقاصدها وأهدافها.
وإنطلاقاً من هذا الواقع ، يناشد السودان المجتمع الدولي ،بإتخاذ موقف واضح وحازم يطالب الدول المساندة لهذه القوات المتمردة بوقف كافة أشكال الدعم فوراً، ويحث على العمل المشترك من أجل إنهاء المعاناة الإنسانية للسكان المدنيين ودعم حقوق الضحايا.
والوقوف إلى جانب الشعب السوداني في هذه المرحلة الحرجة.
إن رحيل والى ولاية غرب دارفور إلى جانب آلاف الابرياء من أبناء وبنات الولاية الذين قُتلوا أو أُبيدوا في تلك الهجمات الوحشية ،يمثل فاجعة وطنية ومأساة إنسانية عميقة تثقل وجدان الشعب السوداني ،ومن هنا نؤكد على ضرورة إحياء ذكرى سنوية لرحيل الوالي وسكان الولاية الابرياء تخليداً لذكراهم الذي يُعد واجباً وطنياً واخلاقياً ،ورسالة وفاء للتضحيات الجسيمة التي قُدمت في وجه جرائم الابادة الجماعية وتاكيداً على ان ذاكرتهم ستظل حية وان العدالة ستبقى مطلباً لا يسقط بالتقادم.
27 يونيو 2025