عدتُ إلى امدرمان، مدينتي التي أحب، بعد سنوات عجاف من الاحتراب والشتات، أبحث بين شوارعها وأزقتها عن ملامح الحياة، عن دفء الوطن، عن شيء من الطمأنينة الموعودة بعد أن دفعت بلادنا ثمناً باهظاً للحرب والفوضى. لكنني، ويا للأسى، وجدت شيئاً آخر… وجهاً غريباً لا يشبه السودان الذي نعرفه.
لم يكن أكثر ما صَدمني هو الخراب المادي، فذاك يُعالج مع الوقت. بل الصدمة الحقيقية كانت في الخراب الأخلاقي والسلوكي الذي ينخر في الجذور، في طريقة الناس وتعاملهم، في أن ترى مراهقين يحملون السلاح في الأسواق بلا رقيب، في أن يتجول مجرمون في الأحياء تحت أنظار العامة دون أن يتحرك أحد.
أي حياة هذه التي نغض فيها الطرف عن باطل واضح؟
أي مجتمع هذا الذي يرى جاره يُنهب أمام عينيه فيبرر صمته بأنه “لا شأن له بالأمر”؟
إنه التواطؤ الصامت… والفساد الصامت… والانهيار الصامت.
أين وزارة الداخلية؟
إن واجب وزارة الداخلية لا يقتصر على حملات التفتيش والمخالفات اليومية، بل في حماية السكينة العامة للمواطن، وفي استعادة هيبة الدولة، التي تبدأ من ضبط انتشار السلاح، وإزالة المظاهر العسكرية غير الرسمية، والحد من الفوضى الأمنية التي باتت تهدد كيان المجتمع.
إن مشاهد المراهقين وهم يتجولون بأسلحة نارية خفيفة، وسط تجمعات المدنيين، ليست فقط خرقاً للقانون، بل استهزاء بوجود الدولة، واستهانة بحياة الناس، وتهديد للسلم الاجتماعي الذي ضحينا من أجله.
فساد متفشٍ… ومجتمع خائف
رغم آلام الحرب، رغم المجازر والتشريد والانتهاكات، لا يزال البعض يصر على التعايش مع الفساد، يبرره، يهابه، يشتري صمته، أو يراه شطارة.
وما يُفزع أكثر هو أن المجتمع بدأ يتقبل هذه الحالة باعتبارها “الواقع”، بدلاً من أن يتمرد عليها ويقاومها. فصرنا نرى لصاً ولا نردعه، ونسمع صرخات الضحايا ولا نحرك ساكناً، ونشاهد صفقات الفساد ولا ننبس ببنت شفة.
حين تفقد المجتمعات أعز ما تملك
إن ما يميز الشعب السوداني لم يكن في حجارة مبانيه، ولا في جمال نيله، بل في قيمه الأصيلة: النخوة، الشهامة، التراحم، الدفاع عن الضعيف، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فإذا ضاعت هذه القيم… ضاع كل شيء.
نحن في خطر عظيم، لا من عدو خارجي، بل من تآكل الروح السودانية، من الفساد الذي ينهش المجتمع، ومن المسؤولين الذين يتهربون من أداء واجبهم تجاه هذا الشعب العظيم.
إنذار مبكر
ما نراه اليوم ليس فقط مظاهر سلبية، بل أعراض مرضٍ أخلاقي واجتماعي، إذا لم نبادر لعلاجه الآن، فغداً سنندم حين لا ينفع الندم.
على الحكومة أن تتحمل مسؤولياتها كاملة، فليس من الشرف أن تتفرج على الخراب من النوافذ.
على الشرطة أن تعود بقوة القانون وهيبة الدولة إلى الميدان.
على كل مسؤول أن يعلم أن التفريط في هيبة الدولة هو خيانة للأمانة، وأن كل دقيقة تهاون يدفع ثمنها الأبرياء في الشوارع.
خاتمة: نداء إلى الضمائر الحية
إلى كل مواطن صالح… إلى كل شرطي مخلص… إلى كل قائد لم يبع ضميره:
هذا بلدكم، وهذه أمانتكم، ولا تستقيم الحياة إلا حين نستعيد قيمنا ومروءتنا، حين يصبح لكل جرم عقاب، ولكل مواطن كرامة مصونة.
أما أن نظل نتفرج بينما تنهار قيمنا أمام أعيننا، فذلك موتٌ من نوع آخر… موت للضمير، وانتحار للأمة.
السودان يستحق أن يُبنى من جديد، لا بالجدران فقط، بل بأخلاق أبنائه.