حين قرر رئيس الوزراء أن تكون بداية المعركة ضد التمزق من داخل الكتاب المدرسي، لا من فوهة البندقية، فإنه وضع نقطة البداية الصحيحة لمسار لا بديل عنه:
بناء الدولة يبدأ ببناء الإنسان.
لا دولة تنهض إذا بقيت عقول أجيالها مشوشة، وهوية أطفالها ممزقة بين قبيلة وجهة، ولا مستقبل يُرجى في ظل مناهج تتهرب من الحقيقة أو تدفن مرارات الماضي تحت ركام الإنكار.
لقد واجه الدكتور كامل إدريس الحقيقة وجهًا لوجه، وقال للدولة بوضوح:
“إن عقول التلاميذ ليست أماكن للهروب، بل ساحات للشفاء الجماعي.”
هذه فلسفة تستحق الاحترام والدعم، لأنها تختار أن تزرع في أعماق المجتمع بدلاً من أن تُرهب قشرته بالسلاح أو القوانين وحدها.
الألم كأداة للشفاء
لقد مرت شعوب كثيرة بتجارب قاسية، ولكن من تعلم من ألمه، صعد.
واليوم، السودان يخوض التجربة ذاتها، لكن بخصوصية سودانية:
لم تكن الحرب بين دولتين، بل داخل النفس السودانية نفسها.
لم تكن مجرد معارك مسلحة، بل كانت صراعًا على الهوية والذاكرة والمصير.
لهذا، فإن تحويل هذه التجربة إلى مادة تعليمية لا يعني تخليد الألم، بل توظيفه، ولا يعني الوقوف عند الندبة، بل بناء المناعة.
صناعة الإنسان المناعي
المناهج التي أمر بها رئيس الوزراء يجب ألا تكتفي بسرد الأحداث، بل يجب أن تصنع جيلًا:
يعتز بهويته السودانية الشاملة.
يرى أن القبيلة جزءٌ من المجتمع لا كلّه.
يقدّر التعدد، ولا يسمح للجهوية أن تكون بوابة للتمزق.
يتعلم أن السلام شجاعة، وأن الكراهية خيانة، وأن الولاء للوطن لا للأشخاص.
هذا هو الإنسان “المناعي” الذي لا يسهل اختطاف وعيه، ولا تعبث به دعايات المليشيا، ولا يُغرّر به باسم الدين أو القبيلة أو المظلومية المصطنعة.
ختامًا: هذا هو المسار الوطني الحقيقي
إن السودان لا ينهض بمشاريع أمنية فقط، ولا بخطب سياسية فارغة، بل عبر:
مناهج تربي، لا تُلقّن.
خطاب ديني يبني، لا يفرق.
إعلام صادق، لا تحريضي.
نخبة سياسية مسؤولة، لا متاجرة بالدماء.
هذه الرؤية التي أطلقها الدكتور كامل إدريس، يجب أن تتحول إلى إستراتيجية وطنية شاملة. فإنقاذ السودان لا يتم عبر القنابل، بل عبر الكتب، لا عبر المعارك بل عبر المدارس، ولا عبر الانتقام بل عبر الاعتراف والمصالحة والبناء.