في جلسة إفطار عفوي مع بعض الجيران صباح ثاني ايام العيد، دار نقاش حول رئيس الوزراء الذي تم تعيينه حديثًا، الدكتور كامل الطيب إدريس. لم يكن الغريب أن يثار النقاش – فهذا أمر طبيعي – لكن المؤلم، بل المستفز، أن تبدأ بعض الآراء في إطلاق أحكام قاطعة على الرجل، قبل أن يتح له حتى فرصة التحرك أو إبداء رؤيته بوضوح.
لقد خرجت من تلك الجلسة بأمرٍ واحد: نحن نعاني من أزمة وعي سياسي، تتجلى في طغيان السطحية على غالبية من يشتغلون بالرأي العام.
كيف يمكن لمجتمع يحلم بالنهضة أن يبني تقييماته على العاطفة، والانطباع، وأحاديث المجالس، لا على المعلومة والتحليل الموضوعي والتجربة الميدانية؟
كيف نحكم على مسؤول، أو قائد، أو حكومة، دون أن ننتظر الأفعال؟ دون أن نُدقق في السياسات؟ دون أن نفهم التحديات والمعطيات التي تحيط بها؟
التقييم الحقيقي لا يُولد من لحظة، ولا ينبني على موقف عابر. بل هو ثمرة لقراءة معمّقة، تتطلب:
معلومة موثقة لا إشاعة.
فهمًا للسياق السياسي والمؤسسي لا اجتزاءً من المشهد.
تمييزًا بين النوايا والأفعال.
تجردًا من العاطفة والانحيازات الشخصية.
للأسف، نرى اليوم بعض الإعلاميين والمحللين والسياسيين يُطلقون الأحكام بلا أدوات علمية، وينفخون في نار الشك والتشكيك، ثم يتساءلون: لماذا لا يتقدم هذا الوطن؟
أي تقدم نرجوه إذا كنا نحاكم الأشخاص على ما لم يفعلوه؟ أو نُدينهم بناء على منابر التواصل الاجتماعي، لا عبر تقارير الأداء؟
أي نضج سياسي نرجوه إذا كنا نُدير معاركنا بالكلام لا بالبرامج؟ وإذا كانت أحكامنا تُصدر بلسان الجهة أو القبيلة أو الحزب، لا بمنطق الوطن والمصلحة العامة؟
إنني هنا لا أكتب مدافعًا عن الدكتور كامل إدريس، بل عن قيمة التقييم العادل وضرورة النضج السياسي في قراءة المواقف والأشخاص.
إن القيادة تُختبر بالفعل، وتُقاس بالمنجز، لا بالصورة والانطباع. ولهذا فإن دعوة اليوم موجهة إلى كل منبر إعلامي، وكل حزب سياسي، وكل صاحب رأي أو تأثير:
عودوا إلى أدوات العلم والتقييم والتحليل.. واتركوا العاطفة، فقد دفعتنا كثيرًا نحو التهلكة.
علموا أبناءنا أن الأفكار تُناقش لا تُشتم، وأن القادة يُقيّمون بأفعالهم لا بأصولهم أو أشكالهم، وأن السياسة ميدان للوعي لا للهوى.
السودان يحتاج إلى وعي عميق لا إلى شعارات زائفة، يحتاج إلى النقد البنّاء لا الهدم الأعمى، يحتاج إلى عقلية تقييم تحفظ الكرامة، وتُحاسب على التقصير، ولكن بعد التمحيص والتجربة.
والله المستعان.