تمرّ أيام عيد الأضحى المبارك على أرض السودان، لكن الفرحة التي تعلو وجوه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تلبس هنا ثوباً ثقيلاً من الحزن والأسى. تمرّ المناسبة ونحن ننظر حولنا فلا نرى إلا جراحاً غائرة، وبيوتاً خاوية، وقلوباً تنزف ذكرى من رحلوا قبل الأوان.
لقد حلّ العيد والسودان يمرّ بأيامٍ هي من أقسى ما مرّ على شعبه الأبيّ. حربٌ طاحنة، أشعل فتيلها المليشيا الجائرة، حولت ديار الأمان إلى ساحات رعب. حربٌ وجودية، لا هوادة فيها، سلبت الأرواح الطاهرة، وشردت العائلات من ديارها، ونهبت الممتلكات، وانتهكت الأعراض.. “واغتُصِب حرايره”. كل بيت في هذا الوطن الجريح يحمل قصة ألم، كل عائلة تروي فصلاً من فصول الفقدان المرير فما من أسرة إلا وفقدت: فقدت عزيزاً غالياً، أو فلذة كبد، أو سنداً وعماداً. هناك من ودّع أسرته بأكملها تحت وطأة القصف والنيران ، وهناك من فقد ابنه الوحيد الذي كان عماد بيته، وهناك من شُتت شمله وفقد كل من يحب. الحزن ضيف ثقيل لا يفارق البيوت، والسكوت أحياناً أبلغ من العويل. وما من مدينة إلا وفيها مصابون: جرحى الحرب يرقدون على الأسرة البيضاء، يسمعون أصوات التكبير وهم عاجزون عن الحركة، يتذكرون أياماً كانوا فيها يذبحون أضاحيهم بيدهم. وآخرون سقطوا شهداء تحت الأرض الطاهرة، أو بين ركام الديار، مصداقاً لقوله تعالى في الحديث القدسي: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ، وَلَا نَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ، وَلَا حَزَنٍ، وَلَا أَذًى، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ”.وما من حيّ إلا وفيه يتامى وفقراءأطفالٌ بريئة، أيتام نظراتهم تتبع الجيران والأصحاب وهم يفرحون بشراء الأضاحي والملابس الجديدة، بينما هم محرومون حتى من أساسيات الحياة. فقدوا آباءهم في الحرب، أو سندهم في هذه الدنيا القاسية، فباتوا يواجهون العيد بقلوبٍ خاوية وأجسادٍ نحيلة. هم “الفيئات التي وصانا بها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم”، ووصيتنا اليوم تجاههم أشد إلحاحاً.
في هذه اللحظات العصيبة، رسالتي إلى إخوتي في الإيمان، خاصةً في السودان، وإلى كل قلبٍ ينبض بالإنسانية
يا أهل السودان الصابرين المجاهدين صبركم في وجه هذه المحنة العظيمة هو بطولة تتحدى الزمن. ثباتكم على أرضكم، أو صمودكم في خيام النزوح، شهادة إيمان لا تقدر بثمن. “وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ”. النصر آتٍ بإذن الله، فحربكم حرب حق ووجود.عليكم بتفقد الجيران والمحتاجين والأرامل اليتامى لا تدعوا أحداً يشعر بأنه منسيّ أو منبوذ. العيد فرصة عظيمة لسدّ الخلة وتضميد الجراح النفسية. زوروا من فقدوا أعزاءهم، احتووهم، شاركوهم وجبة طعام بسيطة، أو كسوة متواضعة. لا تحسسوهم بمرارة الفقد أكثر مما هم فيه. ابتسامة حانية، كلمة طيبة، دعم مادي ولو بسيط، كلها سُبل عظيمة لتخفيف العبء وإشعارهم بأنهم ليسوا وحدهم. “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”.
يا مسلمو العالم: السودان ينزف على مرأى ومسمع من الجميع. لا تنسوا إخوانكم في محنتهم. دعمكم المادي والمعنوي حبل نجاة في هذه الظروف “الضنك”. تذكروا أن دماء الذبائح التي تسيل تقرباً إلى الله، تختلط اليوم على أرض السودان بدماء الأبرياء والشهداء. فلتكن تضحيتكم في هذا العيد أيضاً دعماً لأولئك الذين فقدوا كل شيء.اللهمَّ تقبل من السودانيين صبرهم وجهادهم، وارحم شهداءهم، واشف جرحاهم، وردَّ المشردين إلى ديارهم آمنين، وانصرهم على من عاداهم. اللهمَّ فرّج كربهم، واغفر ذنوبهم، وارزقهم عيداً يعم فيه الأمن والسلام ربوع بلادهم.
يا أسفاه! أسفاً يملأ القلب ويقطع نياطه. أسفاً على فرحة عيدٍ غابت عن أطفال لا ذنب لهم. أسفاً على ديارٍ خلت من أهلها. أسفاً على أرواحٍ طاهرةٍ سُفكت دون حق. أسفاي لو من كنت سوداني وأرى الدمار بعينيّ، وأسفاي لو ما كانت من ذي ديل وأنا حزين لا أستطيع أن أمسح دمعة يتيم أو أسدّ جوع جريح.
لكن من بين ركام الحزن والألم، يبقى الأمل راسخاً كالجبال. فشعبٌ بهذه الصلابة والإيمان لا يمكن إلا أن ينتصر. عيد مبارك على السودان، وإن كان عيداً حزيناً. عيد مبارك على أبطال الجيش الذين يدافعون عن تراب الوطن. عيد مبارك على كل صامدٍ في بيته أو خيمته، مؤمناً بأن الغد لن يكون إلا أجمل بإذن الله. النصر قادم، والفرح سيعود، وستُرفع تكبيرات العيد الحقيقية في سماء السودان الحرة الأبية.