في صباح عيدٍ يختلط فيه الألم بالأمل، وبين أزقة مدينة بورتسودان التي تحولت إلى عاصمة مؤقتة لسودان ينزف، اختار رئيس الوزراء السوداني د. كامل إدريس أن يبدأ يومه بطريقة غير تقليدية. لم يكن على منصة رسمية أو في قاعة استقبال مزينة، بل في مسجد قباء، حيث أدّى صلاة العيد مع المصلين، من دون تفرقة أو حواجز. هذا المشهد بدا وكأنه أول خطوة في بناء دولة جديدة، دولة لا تكتفي بالكلام والوعود، بل تتفاعل مع واقع الناس.
خروج د. إدريس من نمط السياسة المعتاد وخلع حذائه على عتبة المسجد، لم يكن مجرد تصرف شكلي، بل كان علامة على تواضع المسؤول الذي يريد أن يكون قريبًا من معاناة شعبه، لا بعيدا عنه. بعد الصلاة، انتقل إلى مراكز الإيواء، حيث استمع إلى شهادات الأمهات اللواتي فقدن كل شيء في الحرب، واحتضن الأطفال الذين لم يعرفوا العيد إلا اسمه فقط. جلس معهم على الأرض، دون حراسة أو حواجز أمنية، كأنه يقول: “هذه هي دولتكم، وهذه هي مسؤوليتنا”.
الدولة تنزل إلى الناس
في خطابه الموجز، تحدث د. كامل إدريس بصوت يعكس واقعا مريرًا، لكن فيه أمل وصبر:
“عيدنا هذا العام مختلف، محاط بالمحن والتحديات، لكننا نعتمد على عزيمة شعبنا وصبره، ونعمل بكل قوة لإعادة الاستقرار والسلام.”
ولم يكن الكلام وحده كافيا، بل كان الحضور الميداني ووقوفه على واقع مراكز الإيواء دليلا حيا على اهتمام حكومي حقيقي. رأى نقص الغذاء وتدهور الخدمات، وشدّد على ضرورة تدخل عاجل من الحكومة لتوفير الاحتياجات الأساسية للمتضررين. وأطلق نداءً صريحًا للمجتمع الدولي قائلاً:
“تحمّلوا مسؤوليتكم. لا تتركوا السودان وحيدًا وسط الركام.”
صلاة العيد تتحول إلى بيان سياسي
في بلد مزقته الحروب والانقلابات، تصبح أبسط اللحظات، مثل صلاة عيد في مسجد شعبي، أكثر من مجرد طقس ديني؛ بل تتحول إلى موقف سياسي. لم يكن حضور د. إدريس عرضًا إعلاميًا أو محاولة لكسب شعبي، بل كان إعلان نوايا حقيقي بأن الدولة المقبلة ستكون بين الناس، معهم، لا فوقهم. دولة تسمع وجعهم، لا تكتفي بتفسيره من بعيد.
هذه الصورة التي جاءت بلا صخب إعلامي أو حشود، بدت صادقة وأكثر إقناعًا. لم تكن دعاية أو استعراضًا، بل كانت اعترافًا حقيقيًا بضرورة التواضع والاقتراب من الواقع.
الفرح المؤجل والحنين إلى وطن
بين سجدة في المسجد ووقفة في مراكز الإيواء، تُشكلت رسالة واضحة: رغم الخراب والألم، لا يزال العيد يحمل بصيص أمل.
حتى لو كان العيد باهتًا، فإنه يذكرنا بأن الفرح ممكن، إذا وجدت دولة تنصت لشعبها ولا تعامله بالتجاهل.
وفي تلك اللحظة، لا يحتاج المواطن إلى خطط بعيدة أو وعود مستقبلية معقدة، بل إلى تأكيد بسيط:
“لسنا بعيدين عنكم، نحن هنا معكم، وسنظل حتى نعيد لكم بيوتكم وحياتكم.”
زيارة د. كامل إدريس لم تكن مجرد جولة رسمية، بل كانت صلاة سياسية في محراب وطن جريح يبحث عن من يضمّد جراحه بدلًا من تبريرها. قد تكون خطوة أولى في طريق طويل، لكنها خطوة بالاتجاه الصحيح.
إنها تذكرنا أن الدولة ليست مجرد هيكل أو مؤسسات، بل هي إنسان، وهي وجه يُشبهنا، يشاركنا فرحنا وأحزاننا. والعيد الحقيقي سيعود عندما تعود الدولة إلى هذا الوجه، وجه يلامس الأرض، ولا يعلو فوق الناس.