فيما تتّجه أنظار العالم نحو أعمدة الدخان المتصاعدة من ميادين القتال في السودان، وتتصدر صور الدمار العناوين العالمية، يدور خلف الكواليس صراع آخر، أكثر تعقيدًا وأشد تأثيرًا، لكنه بلا ضجيج: صراع تديره السفارات والبعثات الدبلوماسية التي تحوّلت، في بعض الحالات، إلى غرف عمليات موازية تعيد تشكيل المشهد السياسي السوداني من الظل.
فمنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، لم تعد بعض البعثات الدبلوماسية مجرد مراقب أو وسيط محايد، بل دخلت إلى قلب المعادلة، موفرة الغطاء اللوجستي والمعلوماتي، وموجهة مسارات التفاوض والسيطرة، بما يُعرف بـ”دبلوماسية الظل”، التي باتت تلعب دورًا مركزيًا في إدامة الصراع أو توجيه نهاياته.
سفارات أم غرف عمليات؟
بحسب مصادر دبلوماسية تحدثت لـ”المجد نيوز” – طلبت عدم الكشف عن هويتها لأسباب أمنية – فإن عددًا من السفارات الغربية والعربية أعادت انتشارها منذ الأشهر الأولى للحرب، لا سيّما في بورتسودان وأديس أبابا، لكنها حافظت على نفوذها السياسي والأمني.
بل إن بعضها أعاد تنظيم طواقمه ليؤدي أدوارًا مزدوجة: التنسيق الاستخباراتي، دعم أطراف بعينها، ورعاية قنوات تفاوض موازية لا تمرّ عبر مؤسسات الدولة الرسمية. وتكشف تقارير منشورة، مثل ما ورد في نشرة Intelligence Online (نوفمبر 2023)، عن نشاط ملحوظ لسفارات مثل الإمارات، روسيا، وتركيا، في إدارة توازنات دقيقة داخل السودان، غالبًا بعيدًا عن أعين الرقابة أو المحاسبة.
الإمارات: نفوذ متعدد الطبقات
تُعد الإمارات العربية المتحدة أحد أبرز الفاعلين في المشهد السوداني ما بعد الثورة، عبر أدوات تتراوح بين الاقتصاد، الدعم العسكري، والتواصل القبلي.
ورغم نفيها المتكرر، تشير تحقيقات استقصائية – منها تقرير The Africa Report (ديسمبر 2023) – إلى دعم مباشر قدمته أبوظبي لقوات الدعم السريع، فضلاً عن سيطرتها على جزء مهم من تجارة الذهب السوداني عبر شركات تعمل من دبي مثل “الجنيد” و”الزبير”.
لكن الأخطر في المرحلة الحالية هو التحول من دعم عسكري إلى هندسة اجتماعية، إذ تُظهر شهادات محلية أن دبلوماسيين إماراتيين يتواصلون مع زعماء قبائل ومكونات أهلية غرب السودان، متجاوزين الحكومة المركزية. ما يثير تساؤلات حول مشروع “تدويل الداخل” السوداني، وتفكيك مركزية الدولة.
روسيا: من السفارة إلى مناجم الذهب
في ولاية نهر النيل، وتحديدًا منطقة العبيدية، حيث تنتشر مناجم الذهب، تُستخدم أغطية دبلوماسية لتأمين مصالح شركات تابعة لمجموعة “فاغنر” الروسية.
تقارير صادرة عن منظمة بلاتفورم لندن للتنمية (2023) توثق استخدام مقارّ دبلوماسية روسية في الخرطوم لتسهيل حركة ضباط ومهندسين أمنيين مرتبطين بفاغنر، وتربط الصور الفضائية بين مواقع التعدين وبين وجود مجموعات مسلحة محلية تعمل كقوات حماية غير رسمية.
ويرى الباحث الروسي “أندريه فيليبس” من Carnegie Endowment أن “الوجود الروسي في السودان تحوّل من نفوذ سياسي إلى منظومة تهريب اقتصادي تُستخدم للالتفاف على العقوبات الدولية، خاصة عبر الذهب غير المُراقب.”
الولايات المتحدة والبعثة الأممية: إدارة لا إنهاء؟
رغم الانسحاب الرسمي لبعثة “يونيتامس” من السودان، إلا أن أثرها لم يختفِ فعليًا.
وثائق مسربة نشرتها منصة Disclose الفرنسية تكشف أن بعض الموظفين السابقين في البعثة يعملون الآن كمستشارين ضمن فريق أمريكي خاص يتخذ من أديس أبابا مقرًا له. وتفيد المعلومات أن هؤلاء ينسقون مع مسؤولين سابقين في الحكومة الانتقالية، ويدفعون باتجاه تسوية لا تُقصي الدعم السريع، ما يتناقض مع موقف الجيش والمكونات السيادية.
يقول دبلوماسي سوداني سابق للمجد نيوز:
“الولايات المتحدة لا تسعى لحسم الصراع، بل لإدارته. فهي تُفضّل بقاء حالة التوازن الهش، بما يسمح لها بإعادة ترتيب المصالح دون ظهور منتصر واضح.”
تركيا: دعم سيادي محسوب
وسط هذا الزخم من التدخلات، برز الموقف التركي كأحد أكثر المواقف وضوحًا في دعمه للشرعية الوطنية السودانية.
رغم التحديات الأمنية، ظلت السفارة التركية في الخرطوم نشطة، وتواصل تنسيقها مع القوات المسلحة السودانية. وتشير مصادر غير رسمية إلى تسهيلات لوجستية تركية ساعدت الجيش في تأمين معدات اتصالات وقطع غيار عسكرية عبر البحر الأحمر.
ولا يُخفي دبلوماسي تركي سابق – تحدث للمجد نيوز – أن بلاده “تعتبر أمن السودان امتدادًا لأمن البحر الأحمر”، وتسعى لتعزيز العلاقات مع المؤسسات النظامية بعيدًا عن الميليشيات غير المعترف بها.
من يحاسب الدبلوماسيين؟
السؤال الأخطر هنا: من يراقب أداء هذه البعثات؟ من يمنعها من التحوّل إلى أدوات نفوذ لا تخضع لمساءلة أو قانون؟
في ظل ضعف الدولة، وتحول بعض السفارات إلى “دول مصغّرة”، تبدو الحاجة إلى رقابة دبلوماسية وقانونية أكبر من أي وقت مضى.
يقول الباحث السوداني أحمد عبد الله:
“ما يجري في السفارات هو إعادة هندسة السودان على مكاتب لا يراها أحد. الخرائط الجديدة تُرسم في صمت، بعيدًا عن إرادة الشعب.”
حرب في الظل
بينما تحترق الخرطوم والجنوب ودارفور بنيران السلاح، هناك حرب أخرى تُدار من داخل الأبراج الدبلوماسية: حرب ناعمة تُعيد توزيع النفوذ، وتتحكم في مستقبل السودان، وربما تفوق في خطورتها صوت الرصاص.
في هذا المشهد، ليس كل من يحمل جوازًا دبلوماسيًا صانع سلام، وليس كل مبنى يُرفع عليه علم أجنبي، بريئًا من الدم السوداني.
وإذا كان الحل في السودان يمرّ عبر تسوية شاملة، فإن جزءًا من تلك التسوية لا بد أن يمرّ عبر وضع حد لدبلوماسية التدخل، وإعادة تعريف دور البعثات الأجنبية بما يخدم سيادة الدولة لا مصالح الدول.