يشهد السودان واحدة من أعقد الأزمات السياسية والأمنية في تاريخه الحديث، أزمة لا تنفصل عن جغرافيته المضطربة ولا عن تاريخه المليء بالتجاذبات والانقلابات. ومع دخول الحرب السودانية عامها الثاني، تتأرجح البلاد بين فرص تسوية سياسية هشّة واحتمالات مفتوحة لصراع طويل الأمد قد يعيد رسم خريطتها السياسية والاجتماعية لعقود مقبلة.
تسوية محفوفة بالمخاطر
السيناريو الأكثر تداولًا بين بعض الأطراف الإقليمية والدولية هو التوصل إلى تسوية سياسية تُعيد تشكيل السلطة على قاعدة تقاسم النفوذ بين الجيش والدعم السريع، وربما أطراف مدنية محددة. غير أن هذا السيناريو يحمل في طياته تناقضات بنيوية، إذ يُبقي على جذور الصراع من دون معالجة، ويعيد تدوير النخبة العسكرية المتورطة في إشعال الحرب.
ومما يفاقم هشاشة هذا الطرح، غياب مشروع وطني جامع، وضعف الثقة بين المكونات السياسية، وافتقار الحراك المدني حتى الآن إلى مظلة قيادية موحدة، إلى جانب تجاهل تام للقضايا الجذرية مثل العدالة الانتقالية، والإصلاح الأمني، وإعادة هيكلة الاقتصاد المنهار.
السعودية بين المبادرة والضغط
مع تصاعد الضغوط الدولية، تحاول المملكة العربية السعودية أن تظهر في موقع الوسيط، عبر استضافة مفاوضات جدة بين الأطراف السودانية. لكنها في الوقت ذاته، لا تستطيع التحرّك بحرية كاملة في الملف السوداني من دون التنسيق مع الإمارات التي تملك علاقات وثيقة مع قوات الدعم السريع.
في هذا السياق، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات محتملة للدور السعودي:
سيناريو الوساطة النشطة: تضغط الرياض لإنهاء الحرب وتشكيل حكومة توافقية مدنية – عسكرية، مدفوعة برغبة في احتواء الأزمة قبل أن تتحول إلى فوضى حدودية تهدد أمن البحر الأحمر ومصالح التحالف الإقليمي.
سيناريو الشراكة الانتقائية: توازن السعودية بين دعم الجيش السوداني وتحجيم الدعم السريع، دون القطيعة مع الإمارات، لضبط التنافس الإقليمي وتفادي صدام غير مباشر.
سيناريو الضغط الأمريكي: في حال استشعرت واشنطن أن استمرار الحرب يفتح الباب أمام قوى منافسة (مثل روسيا أو إيران أو حتى الصين)، فقد تمارس ضغطًا حقيقيًا على السعودية لدفع باتجاه حل سياسي شامل يتجاوز مقاربات تقاسم النفوذ.
الإمارات: حسابات النفوذ والاستثمار
تبدو أبو ظبي أكثر انخراطًا في الشأن السوداني من خلال دعمها لقوات الدعم السريع، وهو ما بات موضع انتقاد علني من أطراف إقليمية ودولية، وسبب توترًا ضمنيًا في علاقاتها مع السعودية.
تسعى الإمارات لترسيخ وجود استراتيجي في البحر الأحمر، عبر السيطرة على الموانئ السودانية (مثل بورتسودان وسواكن)، وتطوير قواعد اقتصادية وأمنية في مناطق استراتيجية، ضمن مشروع أوسع للنفوذ البحري يمتد من اليمن إلى القرن الإفريقي. وقد لا تكون أبو ظبي في عجلة من أمرها لإنهاء الحرب إذا كان ذلك يهدد مكاسبها الجيوسياسية والاقتصادية.
فاعلون دوليون في الخلفية
بعيدًا عن الخطوط الإقليمية، يظهر في خلفية المشهد اللاعبون الدوليون. روسيا تسعى لتأمين موطئ قدم على البحر الأحمر عبر اتفاقيات سابقة مع الخرطوم لإنشاء قاعدة بحرية، في حين تراقب الولايات المتحدة بقلق التمدد الروسي وتزايد نشاط “فاغنر” سابقًا، وحاليًا أطراف أخرى تعمل خارج المراقبة الغربية.
الصين، بحكم استثماراتها الضخمة في النفط والبنية التحتية، تدعو إلى “الاستقرار” دون الانخراط المباشر في معادلة النفوذ العسكري. أما الاتحاد الأوروبي، فيبدو منشغلًا بالهجرة واللاجئين أكثر من اهتمامه الحقيقي بمسارات السلام والديمقراطية في السودان.
قوى سودانية مُهمشة
بينما يتصدر الجيش والدعم السريع واجهة الصراع، تُقصى أطراف فاعلة من المعادلة السياسية. كثير من الحركات المسلحة، خاصة تلك غير المتحالفة مع الدعم السريع، لم تُمنح موقعًا في المفاوضات الجارية، رغم أنها تسيطر على أراضٍ واسعة في دارفور والنيل الأزرق.
أما القوى المدنية – من لجان المقاومة إلى المبادرات الشبابية والنقابات – فلا تزال مهمّشة رغم أنها القوة الوحيدة التي أظهرت ثباتًا في الدفاع عن أهداف الثورة. وقدمت هذه القوى وثيقة “ميثاق سلطة الشعب” كبديل مدني، لكنه لم يلقَ حتى الآن الدعم الكافي من المجتمع الدولي أو الإقليمي.
صراع مفتوح: نحو نموذج ليبي؟
السيناريو الأسوأ يتمثل في تحوّل الصراع السوداني إلى حرب استنزاف طويلة، تُغذّى بالولاءات القبلية وتوازنات السلاح، وتدفع باتجاه انهيار تام لمؤسسات الدولة. هذا المسار، وإن بدا كارثيًا، إلا أنه يصبح أكثر ترجيحًا مع كل يوم تتأخر فيه التسوية، ومع اتساع رقعة المعارك والانتهاكات، خصوصًا في دارفور وكردفان.
تظهر في هذا السياق مؤشرات مقلقة، منها:
توثيق جرائم تطهير عرقي ارتكبتها قوات الدعم السريع بحق مكونات إثنية في غرب دارفور، وفق تقارير الأمم المتحدة.
تصاعد التسلح المجتمعي، وظهور كيانات قبلية مسلحة خارج سيطرة الدولة.
انهيار القضاء والنيابة، وتحول المدن الكبرى إلى مناطق نفوذ عسكري متصارعة.
رهان القوى المدنية
يبقى الأمل – وإن كان هشًا – معقودًا على إمكان توحد الحراك المدني السوداني، وتحويل طاقته الاحتجاجية إلى مشروع سياسي بديل قادر على كسر الثنائية العسكرية، وفرض انتقال ديمقراطي حقيقي. هذا يتطلب:
دعمًا دوليًا غير منحاز يرفض منطق تقاسم السلطة بين أمراء الحرب.
إصلاح مسار التفاوض ليشمل قوى الثورة الحقيقية.
حوار وطني شامل يعيد تعريف العلاقة بين المركز والهامش على قاعدة المواطنة والعدالة.
لكن ذلك يصطدم حتى الآن بمواقف إقليمية ترى في الثورة تهديدًا لنموذجها السياسي، وبصمت دولي مريب، يساوي بين الضحية والجلاد.
خلاصة: بين كرامة الشعب وأجندات الخارج
يقف السودان اليوم عند مفترق طرق حاسم، تتقاطع فيه مصالح اللاعبين الدوليين والإقليميين. وبينما تحاول السعودية الحفاظ على دور الوسيط الحذر، تتخذ الإمارات موقفًا أكثر جرأة في دعم أحد أطراف الصراع. أما الولايات المتحدة – رغم تعاقب الإدارات – فهي لم تُظهر حتى الآن إرادة حقيقية لوقف الحرب، بل تكتفي بتصريحات دبلوماسية غير فاعلة.
ما يغيب عن كثير من هذه الحسابات هو إرادة الشعب السوداني، الذي لم يخرج في ثورته العظيمة بحثًا عن صفقات، بل طلبًا للكرامة والعدالة والديمقراطية. لا يمكن لأي تسوية أن تُكتب لها الحياة إن لم تُبْنَ على تطلعات هذا الشعب، لا على توازنات السلاح أو تفاهمات العواصم.
فسلام السودان ليس ملفًا تفاوضيًا فحسب، بل أمل شعب بأكمله في الخلاص من الظلم والتبعية، واستعادة وطنٍ حرّ يُبنى بالإرادة لا بالإملاء.