خرج ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بتصريحات لافتة حول “عودة منبر جدة” كإطار لاستئناف التفاوض بين الجيش السوداني والمليشيا المتمردة في مفصل جديد من مفاصل الأزمة السودانية، وذلك إبان زيارة ترامب للمنطقة . جدة ومنبرها لطالما اعتبره كثيرون من أهل الحل والعقد السياسي حلبة لتدويل القضية السودانية وتعويم التمرد، إذ يعود اليوم بلباس جديد وثوب مهترئ ، ولكن بنفس الأدوات والفاعلين.
الفريق أول عبد الفتاح البرهان، القائد العام للجيش السوداني، كان حاسماً في أكثر من مناسبة ومردداً بحزم وعزم “لا عودة لمنبر جدة، ولا تفاوض مع من يذبح الشعب ويهدم الدولة.” فهل تغيّرت المعادلة الآن بين ليلة وضحاها ؟ ومن يقف خلف الإحياء المفاجئ للمنبر الجداوي؟ هل هو تحرّك سعودي مستقل أم تنفيذ مباشر لإملاءات أمريكية صاغها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أو امتداد لعقيدة بايدن المرتكزة على استدامة الفوضى؟
قد يرى كثيرون في تصريحات ولي العهد السعودي محاولة لاستعادة دور المملكة الإقليمي عبر بوابة “السلام السوداني”، لكن المتابع الفطن يدرك أن الخطاب لم يأتِ من فراغ، ولا من فرط شغف الرياض بحل الأزمة ، بل ربما بتنسيق محكم مع واشنطن التي تحاول فرض معادلة تفاوض جديدة تحفظ عبرها للمليشيا موطئ قدم في سودان ما بعد الحرب، ولو من باب “الحل السياسي الشامل”. فهذا الطرح يجعل البرهان أمام مفترق طرق سؤال عريض ، هل سيخضع البرهان لضغط مزدوج من الرياض وواشنطن؟ وهل سينكسر تحت مطرقة الإملاءات الخارجية؟ فإن وافق الرجل ، فمع من سيتفاوض؟ وعلى ماذا سيتفاوض؟ مع من سفك الدماء، ودمّر الخرطوم، وانتهك حُرمة الأحياء والقرى والمدن؟
فالشعب السوداني، الذي قدم آلاف الشهداء في مواجهة التمرد، لن يقبل بهذا التفاوض مطلقاً ، فكيف به إن جاء مفروضاً من عواصم القرار الأجنبي وغرف المصالح الغربية ؟ فإنه لم يكن تعبيراً عن إرادة الداخل أو رغبة الكل . فكل تراجع عن خيار الحسم العسكري وسحق المليشيا سيفتح أبواب الجحيم السياسي والأمني، ويعيد إنتاج الأزمة بشكل أشد خطورة مما كانت عليه .
وما يُطرح اليوم تحت عنوان “منبر جدة” لا يخرج عن كونه محاولة مكشوفة لإعادة إنعاش مشروع التسوية على جثث المدن المدمرة وانقاض الجدر المتهدمة. وهو في جوهره محاولة لتدوير التمرد في صيغة سياسية جديدة ، وتثبيت حقيقة واقعية أن التفاوض ما كان خياراً سودانيا ً وطنياً خالصاً، بقدرما كتن قراراً فوقياً دولياً ومفروضاً كذلك.
عليه، فإن أي خطوة في هذا الاتجاه ستكون طعنة في ظهر الجيش بخنجر ميموم ، وإهانة لتضحيات الشعب الأبي ، وسقوطًا في فخ الهيمنة الجديدة المقنّعة بعنوان “رعاية السلام”.
فالسودان اليوم لا يحتاج إلى منابر تفاوض ميتة، بل إلى مواقف سيادية جريئة تضع حدًا لكل تدخل اجنبي خارجي ، وتعلي راية الوطن فوق كل حساب عالية خفاقة . وما منبر جدة ليس
إلا صدى صوت غير سوداني، ولا يحمل للسودان سوى الوهم المغلف بوعود لا تعرف التحقق أبداً . Elhakeem.1973@gmail.com