على ضفاف النيل العظيم، وفي حضن الأرض الدافئة التي تعرف معنى الصبر والأمل، تقف شندي شامخةً، لا شبيه لها غير حضن الأم حين تفتح ذراعيها لأطفالها المذعورين.
لم تكن شندي مجرد اسم على خريطة، بل كانت قدرًا كتب على جبين هذه الأرض أن تكون ملاذًا… وملهمة.
حين عصفت نيران الحرب بالخرطوم، وارتفعت صرخات النازحين فوق ضجيج البنادق، كانت شندي هناك، تنتظر أبناءها. لم تغلق أبوابها، لم تسأل عن الانتماءات ولا عن الهويات، بل فتحت قلبها كما يفتح الجرح شقًا للشفاء.
شندي احتضنت الشباب بعقولها أولاً.
جاءها المبدعون، المدربون، أساتذة الأمل في زمن الانكسار.
جاءوا يحملون المعرفة كما تحمل الشمس ضوءها لكل الطرقات، ليغرسوا بذور العلم في تربة أنهكتها الحروب، لكنها أبت أن تموت.
أقيمت الورش، الدورات، الاجتماعات، والمدارس المؤقتة… فكانت شندي، المدينة الصغيرة، تختصر الوطن كله في مساحاتها البسيطة.
وفي قلب كل شارع، وعلى رصيف كل سوق، كان هناك درس في الصبر.
الآلاف من وجوه الخرطوم، أطفالها وشيوخها، رجالها ونساؤها، وجدوا بين أزقة شندي دواءً لجراحهم، وقطعة من أمل، ولحظة سلام.
كانت شندي أكثر من مجرد ملجأ،
كانت قصيدة حية، كتبها كل شاب تعلم حرفًا، وكل عجوز وجد مكانًا ينام فيه بأمان، وكل أم رأت أبناءها يكبرون دون خوف من قذيفة غادرة.
وفي لياليها الهادئة، كانت السماء تمطر أحلامًا جديدة، وكان النيل يهمس لمن يحنّ إليه:
“اصبروا… فإن للسلام موعدًا، وإن هذه الأرض .. لا تنسى أبناءها.”
شندي.. لم تعلم الشباب فحسب، بل علّمت الجميع درسًا في الإنسانية:
أن الأوطان لا تبنى بالمباني فقط، بل بالقلوب التي تتسع لكل قادم ، مهما كان مُثقلًا بالحزن.