النش أو كما يحلو لعشاقها مناداتها بذلك تصغيرا وتمليحا للاسم العصي على الغرباء كاملا (النشيشيبة) هؤلاء الذين لم يألفوا دفء أحضانها ولم ينهلوا من ثديها. كانت كغيرها من الأمهات حنونة على أبنائها حنو المرضعات على الفطيم وكل من عاش بين جنباتها وبين غصون اشجارها الفارعة المتثنية والمتمايلة الأفرع وشوارعها الأليفة كان كل ذلك منذ أن وضع الرئيس العظيم الأسبق جعفر النميري حجر أساسها. ظلت النش دوحة للعشاق الهائمين بها متغنين بجمالها ومنجذبين لمحرابها العلمي وارثها الفكري. توالت دفعاتها الواحدة تلو الاخرى لتبلغ الآن الخامسة والأربعون ومازالت محتفظة بشبابها تحارب في معاول الزمن الهدامة ودون كيشوتات العصور الحديثة. تناثر بنوها وبناتها في دروب الحياة يتقلدون المناصب المرموقة وينجزون الأنجازات ويضعونها هي في حدقات العيون يحلمون بالعودة يوما ما لترابها الحنون. ظلت المدينة الجامعية في النشيشيبة حياة منفصلة عامرة بالتفرد و تعاقبت عليها اجيال تترى لتضع بصماتها وروحها ونكهتها بين قلوب هؤلاء الشباب المتوثبين للمعالى والقيم النبيلة. حقيقة تختلف النش عن رصيفاتها بأنها خاصة المدينة الجامعية تمثل محمية طبيعية تحوي بداخلها كائنات حية عديدة وتنوع احيائي رهيب biodiversity . وبعد مقدمنا للنش سكانا لا طلابا حقيقة فؤجئنا بهذه الطبيعة الساحرة الأخاذة من اشجار البان واللبخ او التين البنغالى الذي يظلل قاعتها المتناثرة في حرمها العريض تزينها الحشاىش المختلفة مع سقوط قطيرات الغيث في خريفها الجميل حتى الترع والمصارف زينتها الحشائش المائية مثل ياسنت الماء وغيرها والنخلات الباسقات ذات الطلع النضيد و اشجار النيم الظليلة ثم الدمس الدائم الخضرة الممتدة جذروه العميقة الغائرة. تناثرت على جوانب المدينة الجامعية حقول المحاصيل المختلفة المشتعلة بالقمح والوعد والتمني وسنابل الذرة الرفيعة وزهرات البرسيم الأرجوانية والعدسية الصفراء ثم زهيرات دوار الشمس الصفراوت اللائي يتلفتن عاشقات لقرص الشمس عشقا وولها جاذبات لأسراب الطيور الصافات المتموجات يلتقطن الحبيبات الذهبية. أنواع والوان من الطيور المغردة ذات الالوان الجميلة الزاهية التي تنساب شقشقتها صبحا تعزف سيمفونية الحياة وتعانق اسرابها السحب الركامية الحبلى بقطرات الغيث العميم. حتى احيانا تلمح اعشاش الزرزور المهندس او الكويليا كائنة في أعالي النخيل الملوكي royal palm الممشوق القوام امام مبنى ادارة الجامعة. طيور زاهية اشكالا والوانا التي تنعكس عليها اشعة الشمس الصباحية وتلمح فيها عظمة الخالق سبحانه وتعالى. تلمح ايضا بين اشجارها الباسقة هذه القرود الطريفة او كما يسمية البعض السعدان يتنقل من دار الى دار احيانا تجده بعد الصبح يتبختر متمايلا وسط شوارعها متنقلا كانه يملك كل هذه المنازل المتدثرة بوشاح الشجيرات الخضراء الزاهية. يتبختر احيانا منتفخا خلف اسوار المنازل ( الورل العتيق) متمشيا مشية التيه والغرور وكان الدنيا ملكه وحده ودائما ما يذكرني بمثل اهلنا الطيبون ( البلد المافيها تمساح يقدل فيها الورل) حتى الثعابين الزاحفة هنا وهنالك اعداد كبيرة مختلفة الالوان والخطورة من الكوبرا الى الثعابين الاخرى الاقل خطورة ثم القنافذ وحيوان الصبرة وكذلك انواعا مختلفة من الأرانب السريعة العدو. اما عالم الحشرات فحدث ولا حرج عالم من الرعاشات والفراشات الزاهية الألوان والمفترسات من ابو العيد وفرس النبي التي تتراشق حول اشجار السنط وثمار القرض اللولبية وغيرها. كل بوتقة الجمال هذه للاسف والتنوع الاحيائي الرباني فقد طالتها ايادي غادرة لتزيل بوحشية الغطاء نباتي والتنوع الأحيائي بكل غطرسة وجهل وغرور ومكاسب دنيوية رخيصة. لم احزن على منازلنا واثاثاتنا بقدر ماحزنت على هذه الجريمة البشعة وتدمير اجمل منظومة احيائية و اجمل محمية طبيعية أغمدوا فيها خناجرهم وفئوسهم المسمومة تقتيلا وقطعا لمنظومة قلما تتوفر في العصر الحديث. جعلوها جرداء عارية مدمرة تحكي عن اسواء جريمة ترتكب في الطبيعة والتوازن الطبيعي تركونا وفي قلوبنا حسرة والتياع وضياع حسبنا الله ونعم الوكيل انا لله وانا اليه راجعون.