زفرةُ طفلةٍ نازفة من معسكر زمزم… تلفظ أنفاسها الأخيرة، لا تسأل عن الوطن، بل عن الجثث الملقاة على الطرقات، عن الدماء التي لوّنت تراب دارفور، عن الأمان الذي لم يعد يأتي، عن أمٍّ تغسل وجهها بالدموع، وتخبئ وصايا طفلتها في ثوبها الممزق…
“لا تنسوني… لا تنسوا أنني كنت أحلم فقط أن أعيش، أن أذهب إلى المدرسة، أن ألبس حذاءً جديدًا، لكنهم قتلوني… قولوا للوطن إني أحببته، وأني متُّ قبل أن أنطق بكلمة “سلام”…”
هذا ليس مشهدًا من رواية حزينة، بل واقع نعيشه. من زمزم، من كل معسكرات النزوح، من كل شبر من أرضنا المنكوبة. ما حدث ويحدث ليس حدثًا عابرًا، بل كارثة ممتدة: قتل، تعذيب، اغتصاب، نزوح، تجويع، إبادة ممنهجة.
سلامٌ من دموعٍ سالت على الطرقات، تنادي: يا أمة السودان، أنا ابنة الوطن الجريح، أطالب بالثأر، لا من أجل الحقد، بل من أجل العدالة.
لن أكون شاهدةً على الذل، وإن متُّ، فدمائي لن تسكت، ودماء الأطفال والنساء والشيوخ الذين ارتوت بهم أرض دارفور ستبقى تطالب بالقصاص.
اليوم شرف الوطن يُدنّس، يستباح، وتُزهق الأرواح على مرأى العالم. ولكن هيهات، هيهات!
لدينا أسودٌ تزأر من قلب الصحراء، من خيام النزوح، رجالٌ قدموا الروح فداءً، وجيشٌ قادر على سحق المليشيات، وقواتٌ مشتركة من أبناء دارفور، ممن شُرّدت عائلاتهم، ممن اغتُصبت أمهاتهم، ممن خسروا كل شيء، ولم يخسروا إرادتهم.
نعم، نحن الذين من معسكرات زمزم، أبو شوك، أم كدادة، من فاشر السلطان، من قلب السودان. نحن أمةٌ واحدة، لا نرضى بالذل، لا نركع، لا ننكسر.
مهما قالوا إننا قِلّة، نحن الكثرة بالحق، نحن الذين لا نعرف اليأس. نحن الذين علّمنا الشعوب كيف تكون الانتفاضات، وكيف يولد العشم من تحت الركام. تاريخنا عزة وكبرياء. كم من المحن مرّت؟ وكم من وجعٍ قاومنا؟ لكننا ما بعنا، ما خنّا، ما تعبنا.
يا من تظنون أن السودان قد انتهى، أن دارفور صارت رمادًا… أنتم واهمون.
نحن باقون، نحمل الوطن على ظهورنا، ونرويه من دماء أبنائنا. جنودنا غُضاب، لا يهابون الموت، يحمون العرض، يرفعون الراية.
اللهم احفظ بلادنا من الشرور، وحد صفوفنا، واجعلنا سدًّا واحدًا في وجه من باعوا الوطن.
يا أمةً صابرة على الوجع، إن ضللتِ الطريق، فارجعي للتاريخ، واقرئي فصوله. نحن شعبٌ لا نخاف إلا الله، ولا ننقسم إلا على خيانة.
لن نتفرّق بعد اليوم، لن ننسى من نحن، لن نمحو دماء الشهداء.
نقسم أن لا نغفر للخونة، أن لا نسامح من مزق دارفور، أن لا ننسى الجثث التي قُطعت، ولا الأرواح التي صُفّيت بدمٍ بارد.
نحن الذين أكلنا يوم أكل الثور الأسود، يوم تنازلنا عن حقّنا، باسم التسامح، فابتلعنا الإعدام بابتسامة.
لكننا اليوم… عدنا.
عدنا لنغسل عار الجبناء، لنكن ما يجب أن نكون.
وإن خانتنا الكلمات، فلن تخوننا الدموع، وإن عجز الحبر، فدماؤنا تكتب.
ليعلم القاصي والداني: أن من خرج من رماد دارفور، رماد الوطن في كل شبر دنس لن يعود إليه إلا منتصرًا. وأن الذين قُتلوا… لم يُقتلوا عبثًا، بل مهّدوا الطريق بوطنٍ حرّ.
نقسم أمام الله، وأمام كل أمٍّ لا تزال تنتظر، وأمام كل طفلٍ يسأل عن بيتٍ تحت السماء: أن لا نُفرّط، أن لا نغفر لمن خان، وأن نرفع راية العدل، لا تُنكّس أبدًا.
سلام وأمان… فالعدل ميزان