يمثّل جيل زد في السودان (مواليد 1995–2010) أحد أكثر الأجيال حضوراً وتأثيراً في التاريخ السوداني الحديث. فقد نشأ في بيئةٍ مشبعة بالاضطراب السياسي، والانهيار الاقتصادي، والتحولات الاجتماعية العميقة، لكنه استفاد في الوقت نفسه من موجة التحديث التكنولوجي التي جعلته أكثر اتصالاً بالعالم، وأكثر وعياً بمعاني الحرية، والعدالة، والشفافية، والعمل الأفقي.
جيلٌ تشكّل وجدانه في فضاء رقمي مفتوح، ثم وجد نفسه فجأة داخل وطن تتهاوى فيه المؤسسات، وتتصدّع نخبه السياسية في صراعٍ على السلطة لا على مستقبل الناس. ورغم أن الحرب دمّرت كل شيء—من التعليم إلى الاقتصاد—إلا أن تجربة هذا الجيل تكشف أنه الأكثر قدرة على إعادة تركيب السودان من جديد، ليس لكونه الأكبر عدداً، بل لكونه الأكثر تحرّراً من الأيديولوجيات القديمة، والأقرب وجدانيًا وفكريًا إلى الدولة المدنية.
ورغم هيمنة العسكرة وتشابك المصالح القبلية والأيديولوجية، ما يزال هذا الجيل ثابتاً على عهده وإيمانه العميق بضرورة التغيير. وبرغم أنهم لم يتحوّلوا بعد إلى الكتلة الحرجة القادرة على مواجهة النظام ومليشياته وسلاحه وموارده، إلا أنهم اليوم نواة صلبة في طور التكوين، وكتلة حديثة تتبلور ملامحها نحو دورٍ سياسي واجتماعي أكثر تأثيراً.
الكتلة الديمغرافية الأكبر
يشكّل جيل زد ما يقارب 38–42% من سكان السودان. وتتركّز كتلتهم في الخرطوم يليها مدن دارفور، كردفان، الجزيرة، شرق السودان
وهي مناطق تمثّل قلب الصراع، وفي الوقت نفسه قلب المقاومة المدنية والاجتماعية.
يرى حنّة آرندت وتوماس هوبز أن الحروب تعيد تشكيل الإنسان، فتنقله من الفعل إلى ردّ الفعل، ومن صناعة التاريخ إلى الهروب منه.
وهذا تماماً ما عاشه جيل زد:
في ثورة ديسمبر 2018–2019: كان ذاتًا فاعلة تُنتج السياسة.
في حرب 2023: صار ذاتًا مهدَّدة تحاول النجاة من الرصاص والجوع والتهجير.
لكن المفارقة أن القهر لم يُنهِ وعي هذا الجيل، بل عمّقه، ووسّعه، وحرّره من الخوف.
يصف بول ريكور لحظة القطيعة الزمنية بأنها اللحظة التي يصبح فيها الحدث أكبر من قدرة الذاكرة على استيعابه.
وهذا ما يعيشه جيل زد:
ماضٍ انتهى: دولة تفككت، مؤسسات دُمّرت.
مستقبل معلَّق: لا تعليم، لا وظائف، لا أمن.
ومع ذلك، فإن هذه القطيعة هي التي تدفع هذا الجيل لرفض تكرار الماضي، والسعي لبناء زمنٍ جديد.
يقول زيجمونت باومان إن المجتمعات المنهارة تتحول إلى مجتمعات سائلة بلا قواعد ولا مؤسسات.
اليوم يعيش جيل زد: بلا دولة تحميه، بلا نظام تعليمي، بلا مؤسسات رعاية، بلا ضمانات قانونية
ورغم ذلك يبني روابط اجتماعية بديلة خارج سلطة الدولة:
عبر لجان المقاومة، غرف الطوارئ، التكايا، ومبادرات الدعم المتناثرة.
خلقت الحرب أكبر جيل مصدوم في تاريخ السودان.
وأبرز أعراض الصدمة الممتدة عبر الأجيال (Transgenerational Trauma) تشمل:
اضطراب ما بعد الصدمة
إحباط وجودي
فقدان الأمان
عدوانية ناتجة عن الفقد
عزلة وانكفاء اجتماعي
هذه ليست أعراضاً فردية، بل ملامح لهوية جديدة تتشكّل تحت النار.
الحروب تتسبب في تفكك البنية الاجتماعية: تؤدي الحرب إلى تآكل البنية الاجتماعية التقليدية:
- تراجع التكافل
- ارتفاع نسب الطلاق
- تفكك الأسر
- ظهور “الزواج الاضطراري”
*اختفاء كثير من الطقوس الاجتماعية
جيل زد نشأ في مجتمع يفقد ملامحه الأساسية.
بالنسبة لهذا الجيل، لم تعد الهجرة رغبة سياسية أو اقتصادية، بل ضرورة بقاء.
وفي الخارج، استطاع الشتات السوداني الجديد أن يخلق:
شبكات مهنية
مصادر تمويل
قدرات تقنية
تأثيراً سياسياً وإعلامياً عالمياً
الشباب السوداني في الخارج يمكن أن يصبح قوة استراتيجية لإعادة بناء السودان، إذا توفّرت رؤية تربطهم بالداخل بصورة مؤسسية.
ورغم أن الشتات أصبح منصة للمقاومة الناعمة، إلا أنه ما يزال يفتقر إلى كيان سياسي جامع.
لكن التجارب العالمية تقول إن التعليم والفرص الاقتصادية سيقودان حتماً إلى تنظيم الصفوف، وتكوين هياكل جديدة ولوبي سوداني مؤثر غير مسبوق.
غياب الدولة والاقتصاد دفع آلاف الشباب للانضمام إلى:
مليشيات
قوات قبلية
مجموعات مسلحة
بدافع الخوف أو الفقر أو الحماية.
تم استغلالهم في صراعات لا تمثّل طموحاتهم ولا هويتهم.
و بالرغم من الحرب ظهرت المقاومة السلمية و التي اصبحت تمثل المعمار الحقيقي للسودان الجديد. اصبحت لجان المقاومة اهم مؤسسة ثورية يقودها الجيل و تمثل نموذجا نادرا في العالم العربي للحركات الأفقية التي لا قائد لها. صاحب هذا مبادرات الطوارئ التي أثبتت أن:
المجتمع يمكن أن يُدار بلا دولة
والشباب قادرون على بناء هياكل مدنية مستقلة.
هؤلاء هم نواة التحول القادم.
ادت الحرب الي تكوين طبقة سياسية جديدة New Political Class
أفرزت الحرب جيل يتجاوز:
الإسلاميين
العسكر
الأحزاب التقليدية
و يعتمد علي : اللامركزية، الشفافية، الشبكات بدلاً من القيادات الهرمية، التكنولوجيا، العمل الميداني
جيل زد لن يقبل بتسويات النخب القديمة.
سيدفع نحو:
دستور جديد
عقد اجتماعي مختلف
عدالة انتقالية حقيقية
خروج كامل للعسكر من السياسة
مؤسسات مدنية مستقلة
رغم أن الحرب فجّرت العنصرية والجهوية، إلا أن جيل زد قادر على بناء هوية وطنية جديدة ترتكز على:
المواطنة
الكرامة الإنسانية
العدالة
سردية وطنية موحدة
وإذا استمرت النخب في صراعها، فإن هذا الجيل سيقود:
حركات سياسية جديدة
شبكات ضغط مدنية
تحالفات داخلية وخارجية
إعادة تركيب الحقل السياسي من جذوره
الحرب حطمت كل شيء؛
لكنها في المقابل خلقت جيلاً: لا ينتمي إلى الماضي، لا يخاف من الأسئلة الكبرى، لا يقبل بالاستبداد، لا يعترف بالزعامات القديمة، ولا يرى سوى الدولة المدنية طريقاً للمستقبل
جيل زد ليس “جيل الأزمة”،
بل جيل التأسيس الثاني للدولة السودانية.
وكما قال الشهيد عبد العظيم:
«تعبنا… لكن لا يمكننا الاستلقاء أثناء المعركة.»
هذا الجيل هو مشروع السودان القادم—بإذن الله.
تنويه
يُعد مأمون نجم الدين فرح—أحد المشاركين في كتابة هذا المقال—نموذجاً حيّاً لجيل زد السوداني. فقد كان من أوائل الشباب الذين شاركوا في ثورة ديسمبر المجيدة و اعتصام القيادة العامة، وتعرّض للاعتقال أثناء عملية فض الاعتصام، وكان قاب قوسين أو أدنى من التصفية لولا عناية الله ولطفه.
وتجربته، مثل آلاف من أبناء جيله، تجسّد روح هذا الجيل الذي يصنع وعيه تحت النار، ويصرّ على أن يكون جزءاً من بناء السودان الجديد مهما كلّف الطريق.
