الثلاثاء, نوفمبر 18, 2025

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي السودان بين شرعيتين..

تبدو مسألة الشرعية في السودان سؤالًا متجدّدًا، ليس لأنها تحدد من يملك حق التفاوض وإدارة الحكم  فحسب، بل لأنها ترسم ملامح الدولة التي ستولد عقب انتهاء الحرب، وتحدد شكل العقد الاجتماعي الذي سيحكم السودانيين لسنوات قادمة. فبين شرعية الدولة القائمة وشرعية ما بعد الحرب، تتبلور اليوم معادلة سياسية جديدة تتجاوز حدود السلاح والميدان إلى عمق الوعي الوطني الذي يصبح على المحك.

لقد حاولت سردية “الحرب بين جنرالين” التي روّجتها بعض القوي السياسية و المنابر الإقليمية والدولية اختزال الصراع في تنافس شخصي، غير أن تراكم الوقائع المخزي ، وتصاعد الانتهاكات، وتدفّق المرتزقة من مختلف أنحاء العالم، وتزايد الاعتراف الدولي بوقائع الإبادة في دارفور والجزيرة والفاشر، الجنينة ، أعاد تعريف المشهد بصورة أسقطت المخطط الذي كان يُحاك للسودان منذ سقوط نظام البشير عام 2019. وقد اكتمل هذا المخطط بمحاولة انقلاب مليشيا الدعم السريع في 15 أبريل 2023، وهي المحاولة التي فجّرت الحرب عقب فشلها.

وجاءت الإدانة الأخيرة الصادرة عن المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، حين وصف السودان بأنه ساحة “حرب تُخاض بالوكالة للسيطرة على الموارد الطبيعية”، لتكون إعلانًا رسميًا بأن الدولة السودانية تتعرض لعدوان خارجي ممنهج ، وأنها ليست طرفًا عاديًا في صراع داخلي أو “تمرد”، بل هدف لمشروع متعدد الطبقات والأطراف.

هذا التوصيف الأممي يضع العالم أمام مسؤولياته القانونية والأخلاقية، ويمنح الحكومة السودانية أرضية سياسية صلبة لحسم الحرب عسكريًا وتأكيد شرعية الدولة باعتبارها الحاضن الوحيد لوحدة البلاد وأمنها القومي. لكنه يفتح أيضًا الباب أمام السؤال الأهم:

أي شرعية ستقود السودان في مرحلة ما بعد الحرب؟ وهل تكفي الشرعية العسكرية، القائمة على الدفاع عن الدولة، لإدارة مرحلة السلام وإعادة البناء؟

إن مشروعية الدولة اليوم تستمد قوتها من ثلاثة مصادر متداخلة: أولها: شرعية القوات المسلحة وفقًا لقانونها ، وهي الشرعية الواقعية المرتبطة بحماية الحدود، وبسط الأمن، ومنع تفكك البلاد.

ثانيها: الشرعية الوطنية المتولدة من الالتفاف الشعبي الواسع بعد اندلاع الحرب و مجازر الفاشر والجزيرة، والجنينة ، حيث باتت الدولة — لا المليشيا — التعبير الأوضح عن وحدة الشعب في مواجهة العدوان.
ثالثها: الشرعية القانونية، المستندة إلى اعتراف أممي متنامٍ بأن السودان يتعرض لعدوان خارجي عبر وكلاء محليين، وهو اعتراف يجعل تصنيف المليشيا كمنظمة إرهابية خطوة منطقية وقانونية وليست سياسية.

لكن إعادة بناء السودان لا يمكن أن تقوم على شرعية واحدة مهما بلغت قوتها، بل تحتاج إلى شرعية مركّبة تُعيد وصل ما انقطع بين الدولة ومواطنيها، وتفتح باب المشاركة السياسية على أسس جديدة ” عدالة انتقالية” تعالج جذور الصراع لا مظاهره.

لذلك ظللنا ندعو إلى تشكيل برلمان انتقالي أو أي إطار تشريعي جامع يتحمل جزءًا من المسؤولية السياسية. وهذه الدعوة ليست ترفًا سياسيًا، بل شرطًا وجوديًا لتجنب الفراغ الذي يسمح للوصاية الدولية بالتسلل إلى مفاصل القرار الوطني. فالشرعية التي لا تتحول إلى مؤسسات تبقى مؤقتة مهما كانت ضرورتها وسطوتها، ويصعب عليها التفاوض باسم الشعب أو صياغة مستقبل دائم دون غطاء تشريعي واضح.

لقد أدركت دولٌ واجهت أزمات مشابهة ، مثل إثيوبيا والجزائر ومصر ، أن الدولة لا تقف بقوتها العسكرية وحدها، بل بمؤسساتها التي تمنح قراراتها بعدًا وطنيًا جامعًا وتحميها من الضغوط الخارجية. وفي السودان، تبدو الحاجة أكثر إلحاحًا، لأن الحرب لم تعد مجرد صراع داخلي، بل مشروعًا لإعادة رسم الخريطة السياسية والاجتماعية للبلاد، بما يمكن أن يحولها إلى فسيفساء من الكيانات المتنازعة إن لم يُستدرك الأمر سريعًا.

إن شرعية ما بعد الحرب يجب أن تُبنى على مفهوم جديد للدولة، لا يكتفي بحماية الأرض من التفكك، بل يعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع على أساس الهوية الوطنية الجامعة، والعدالة، والمواطنة، وسيادة القانون. فالشرعية لا تُنتزع بالسلاح ولا تُمنح من الخارج، بل تُصنع داخل المؤسسات الوطنية التي تحظى بقبول الناس وثقتهم واحترام العالم.

وفي ظل اعتراف فولكر تورك بطبيعة الحرب، وتعبئة البرهان للشعب دفاعًا عن الدولة، والتحولات الإقليمية التي تعيد ترتيب موازين النفوذ من الرياض إلى واشنطن وأنقرة والقاهرة والدوحة، تتشكل اليوم معركة الشرعية السودانية في فضاء مفتوح. إنها معركة ضد السلاح المنفلت بقدر ما هي معركة ضد الوصاية الدولية وروايات تحويل السودان من دولة ذات سيادة إلى ساحة صراع بين وكلاء الداخل والخارج.

وبحسب #وجه_الحقيقة، فإن السودان يقف الآن أمام تحول تاريخي: إما شرعية تستند إلى قوة الدولة وإرادة الشعب وتفتح الطريق نحو سلام يستند إلى القانون والمؤسسات، وإما شرعية مفروضة من الخارج تُعيد إنتاج الحرب بأشكال جديدة. وما بين الخيارين، تكمن مسؤولية الوعي الوطني في صياغة مستقبل لا يكون فيه السودان تابعًا لأحد، بل سيدًا على قراره، واثقًا من نفسه، قادرًا على إعادة بناء ما دمرته الحرب بيد واحدة وإرادة واحدة.

دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 18 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات