الإثنين, نوفمبر 17, 2025
الرئيسيةتقاريرأم جنقر… ...

أم جنقر… رحلة امرأة من شرق الجزيرة إلى القاهرة عبر مناجم الذهب كتبت/ رجاء داؤد

لم تكن “أم جنقر”—وهو الاسم الذي عُرفت به في سوق الطعام بمناطق التعدين—تتوقع أن تقودها الحياة يومًا بعيدًا عن مدينتها بولاية الجزيرة. كانت تعيش حياة بسيطة، تصنع الطعام في منزلها وتبيعه للجيران والطلاب والعمّال، وتجد في ذلك رزقًا مستورًا يكفيها ويكفي أطفالها.

لكن الحرب حين اجتاحت الجزيرة قلبت كل شيء. احترقت أجزاء من المدينة، وانتشرت الفوضى، وتوقفت الأسواق والمدارس. ومع تزايد القصف ونزوح الجيران، لم تستطع البقاء أكثر. تقول:
“المناقل بقت ما معروفة… بيتنا انكسر، وما في زول كان قادر يعيش.”

من النزوح إلى العمل في مناطق الذهب

نزحت أم جنقر شمالًا مع مجموعات من الأسر الهاربة، تقطع الطرقات سيرًا أو عبر شاحنات مكتظة لا تتوقف إلا لتتزود بالماء. استقرت مؤقتًا في مدينة شندي، لكن الحياة هناك كانت مكلفة، وفرص العمل تكاد تكون معدومة.

بعد أسابيع من البحث، اقترحت عليها إحدى النساء أن ترافقها إلى مناطق التعدين التقليدي، حيث يعمل آلاف الرجال وأنصاف المراهقين. قالت لها:
“هناك الأكل بباع… العمال محتاجين زول يطبخ ليهم.”

كانت تلك بداية رحلتها إلى عالم لم تعرفه من قبل.

الحياة وسط المناجم… “الذهب كتير لكن الناس تعبانة”

وصلت أم جنقر إلى منطقة تعدين صحراوية قاسية. الحرارة لا تُحتمل، والغبار يملأ الهواء منذ الفجر. كان الرجال يغوصون في الرمال، يحفرون آبارًا عميقة بلا معدات أمان، بينما ينتشر صوت الطواحين في الخلفية يهز الأرض، وتتصاعد الأدخنة من الزئبق المحروق.

نصبت خيمتها المصنوعة من قماش مهترئ، وبدأت في إعداد ما تعرفه جيدًا:
“لقمة، ملاح أم جنقر، وشاي على الجمر.”

كان زبائنها من المعدنين التقليديين، والعتّالة، وسائقي الشاحنات، وعمال الطواحين. كانوا يجلسون أمامها متعبين، يتنفسون بصعوبة، ووجوههم مغطاة بطبقة سميكة من التراب. كانت تسمع يوميًا عن إصابات وسقوط آبار وموت مفاجئ.

وتقول:
“الذهب موجود… وبيطلعوا منه شوالات… لكن الشغّيلة ديل بيطلعوا بالفتات، والمرض.”

التدهور الصحي… بداية النهاية في المناجم

بعد أشهر من العمل وسط الدخان والغبار والزئبق، بدأت أم جنقر تشعر باختناق مستمر، وسعال يوقظها ليلًا، ووجع في الصدر لم تعهده من قبل. لم يكن في المناطق أي وحدة صحية، ولا طبيب، ولا حتى إسعاف. كانت تكتفي بالماء الدافئ والأعشاب.

لكن حالتها ساءت. تقول:
“في يوم ما قدرت أرفع الجردل… قلبي رجف، والهواء ما لاقياه.”

نصحها عمّال الطاحونة بأن تغادر فورًا، لأن “المرض في المناجم ما بخف… بخوف”.

العودة نحو الشمال… رحلة بحث عن علاج

تركت خيمتها القماشية وكل أدواتها خلفها. حملت حقيبة صغيرة، واستقلت شاحنة محمّلة بالمعدنين العائدين. الطريق كان طويلًا ومرهقًا، لكن خوفها من الموت كان أكبر.

عادت إلى شندي أولًا، ثم إلى نهر النيل، وبقيت أيامًا مع إحدى الأسر. حاولت زيارة طبيب، لكن تكلفة الكشف والعلاج كانت فوق طاقتها. وهنا بدأت تفكر لأول مرة في مغادرة البلاد.

الحدود… ثم القاهرة

بعد ترتيبات مرهقة وتكاليف جمعتها من قريبات ومعارف، انطلقت في رحلة شاقة نحو مصر. الطريق مجهد، والحافلات مزدحمة، ونوبات السعال لم تفارقها لحظة.

تقول:
“كنت حاسة لو اتأخرت يوم واحد بس… الهواء كان بقطع.”

وصلت القاهرة في نوفمبر 2024، منهكة وتكاد تختنق. استقبلتها إحدى الأسر السودانية، وساعدتها في الحصول على موعد لدى طبيب صدرية قريب.

العلاج وبداية التعافي

كشف الأطباء أنها تعاني من التهاب صدري حاد وتضرر في الشعب الهوائية ناتج عن التعرض المستمر للغبار والزئبق. بدأت علاجًا مكثفًا شمل أدوية موسّعة للشعب وجلسات متابعة.

خلال الشهور من نوفمبر 2024 وحتى يوليو 2025، بدأت تسترد قدرتها على التنفس. ظل السعال يرافقها، لكنه لم يعد يهدد حياتها.

وتقول:
“الحمد لله… هنا لقيت علاج. في المناجم كان حظي الموت ساكت.”

شهادة حيّة على واقع التعدين

اليوم تعيش أم جنقر في غرفة بسيطة بالقاهرة، تعمل أحيانًا في إعداد الطعام داخل المنازل، وتواصل علاجها على فترات. لكنها لا تنسى ما رأته:
– غياب كامل للحماية في مناطق التعدين
– إصابات يومية وسط العمّال
– تعرّض النساء للدخان والزئبق
– استغلال اقتصادي يترك العمّال بلا مقابل
– موت صامت لا يلتفت إليه المسؤولون

وتقول:
“الناس في المناجم ما لاقية حق العلاج… والمرض قاعد يقتل فيهم بالبطيء.”

قصة أم جنقر ليست مجرد تجربة شخصية؛ إنها نافذة على واقع مظلم، حيث يصنع الذهب ثراء قلة، ويترك آلاف الكادحين معلّقين بين الحياة والموت.

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات