لم يعد السودان بالنسبة للولايات المتحدة ملفاً يمكن مراقبته من خلف الزجاج الدبلوماسي. فالحرب التي اندلعت في الخرطوم ثم اتسعت نحو دارفور وكردفان تحولت إلى أزمة استراتيجية متشابكة، تتقاطع فيها الإبادة الجماعية مع شبكات التهريب الإقليمية والتكنولوجيا العسكرية المتقدمة والمنافسات الجيوسياسية في البحر الأحمر. وبالنسبة لواشنطن، لم يعد السؤال هو “ما الذي يجري؟”، بل “إلى أين يمكن أن يصل هذا الصراع إذا تُرك دون تدخل؟”. وفي قلب هذه التساؤلات تقف قوات الدعم السريع باعتبارها القوة الأكثر قدرة على تغيير معادلات الأمن الإقليمي وعلى تهديد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
بدأت ملامح التحول الأميركي تتبلور في 7 يناير 2025 عندما أعلنت إدارة الرئيس جو بايدن — عبر وزير الخارجية أنتوني بلينكن — أن قوات الدعم السريع وميليشيات متحالفة ارتكبت إبادة جماعية في دارفور. كان ذلك الإعلان نقطة فاصلة؛ فهو لم يكن توصيفاً حقوقياً فحسب، بل اعترافاً بأن نمط العنف الذي تمارسه هذه القوات تجاوز كل الحدود، وأن التعامل معها كطرف سياسي تقليدي أصبح أمراً غير ممكن.
وبعد أقل من أسبوعين، انتقلت السلطة في الولايات المتحدة إلى إدارة الرئيس دونالد ترامب، وتولى السيناتور ماركو روبيو وزارة الخارجية. ومنذ تصريحاته الأولى بدا أن المقاربة الجديدة أكثر صرامة مما كانت عليه في عهد بايدن. ففي إحاطاته وتصريحاته العلنية، تحدث روبيو بنبرة مباشرة عن الأطراف “التي لا تلتزم بالاتفاقات وتوسع نطاق العنف”، في إشارة واضحة إلى الدعم السريع رغم عدم ذكره بالاسم. ومع مرور الأيام، أصبحت مواقفه أكثر تحديداً، خصوصاً بعد اتساع رقعة القتال في دارفور وحصار الفاشر.
لكن اللحظة الأبرز في رسم ملامح الموقف الأميركي الجديد جاءت خلال اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبع في كندا. ففي المؤتمر الصحفي الختامي بمدينة نياجارا، قدّم روبيو تصريحاً هو الأكثر وضوحاً منذ توليه منصبه، قائلاً:
“يجب فعل شيء لوقف تدفق السلاح والدعم الذي تتلقّاه قوات الدعم السريع بينما تواصل تقدمها وارتكاب الفظائع. من الواضح أنهم يحصلون على دعم خارجي… وهذا يجب أن يتوقف.”
وأضاف أن الولايات المتحدة تمارس ضغوطاً على الدول التي تزوّد الدعم السريع بالسلاح أو تشكّل ممراً لعبوره، مؤكداً أن استمرار هذا التدفق يمثل تهديداً للاستقرار الإقليمي وللسكان المدنيين في دارفور. هذه التصريحات — التي صدرت من منصة تجمع القوى الصناعية الكبرى — أكدت أن الملف السوداني لم يعد شأناً إنسانياً فقط، بل أصبح تهديداً أمنياً ذا أبعاد إقليمية ودولية.
وما ساهم في تعزيز هذا التصور الأميركي هو ظهور مسيّرات صينية متقدمة في مطار نيالا تحت سيطرة الدعم السريع. فقد وثّقت Yale Humanitarian Research Lab وجود طائرات يُرجّح أنها من طراز CH-95 أو FH-95، وهي منصات قتالية متطورة بمدى عملياتي يصل إلى 100–200 كيلومتر. بالنسبة لواشنطن، فإن امتلاك قوة غير نظامية لمثل هذه التكنولوجيا يثير أسئلة حادة حول مصدر التدريب والدعم الفني، ويكشف عن شبكة إمداد تعمل خارج رقابة المجتمع الدولي. وجاء تقرير منظمة العفو الدولية ليؤكد وصول أسلحة صينية متقدمة إلى السودان عبر إعادة التصدير من الإمارات، في خرق واضح لحظر السلاح على دارفور.
لكن التحوّل الأكبر في عقل واشنطن لم يكن سببه المسيّرات أو السلاح فقط، بل ما جرى في الفاشر. ففي الأشهر الأخيرة، تحولت المدينة إلى أكبر مسرح للعنف المنظم في السودان. ما حدث لم يكن معركة تقليدية، بل حصار شامل استخدمت فيه التجويع والعزل كأدوات قتالية. فقد أحكمت قوات الدعم السريع الطوق على الفاشر من ثلاث جهات، وقطعت الطرق الحيوية المؤدية إليها، واستهدفت المرافق الصحية بشكل منهجي، مما أدى إلى توقف المستشفى السعودي والسلمابي عن العمل لفترات طويلة.
وبينما كان السكان محاصرين داخل المدينة، استُخدمت المسيّرات في استطلاع مسارات الهرب وتنفيذ ضربات دقيقة. ثم بدأ الهجوم البري وفق تكتيك “القضم البطيء”، فتمت السيطرة على الأطراف الشمالية والغربية، وإجبار السكان على النزوح القسري، ثم اقتحام الأحياء الداخلية. وعندما بدأت القوات المهاجمة التقدم نحو قلب المدينة، ظهرت شهادات وصور أقمار صناعية توثق دماراً واسعاً، خاصة في أحياء الزقلونة والمناطق المحيطة بها.
ومع انكشاف أجزاء من المدينة، بدأت تتواتر معلومات أكثر خطورة. فقد أشارت تقديرات مستقلة موثوقة استندت إلى صور الأقمار الصناعية وشهادات ميدانية إلى وجود ما لا يقل عن 15 موقعاً يُشتبه بأنها مقابر جماعية حول الفاشر. وتشير تقديرات حقوقية وخبراء محليون إلى احتمال تجاوز عدد الضحايا 10 آلاف مدني خلال فترة الحصار والاقتحام. هذه الأرقام — رغم غياب التحقق الأممي الكامل — اكتسبت صدقية كبيرة نتيجة تقاطع المصادر وتوافق التقارير الميدانية مع صور الدمار الواسع.
هذه الوقائع المتصاعدة دفعت الكونغرس الأميركي إلى اتخاذ خطوة غير مسبوقة بإقرار التعديل التشريعي S.Amdt.3626, الذي يلزم وزارة الخارجية بإجراء تقييم رسمي خلال 90 يوماً بشأن ما إذا كانت قوات الدعم السريع تستوفي شروط تصنيفها كـ منظمة إرهابية أجنبية (FTO). لا يعني هذا التصنيف تلقائياً، لكنه يمثل المرحلة قبل الأخيرة في مسار اتخاذ القرار داخل واشنطن، وهو مؤشر واضح على حجم القلق الأميركي من تطور القوة العملياتية للدعم السريع.
وبتحليل الشروط القانونية الثلاثة للتصنيف الإرهابي — أن تكون الجهة أجنبية، وأن تمارس أعمالاً إرهابية أو تمتلك القدرة على ذلك، وأن تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي — نجد أن الدعم السريع يقترب من استيفائها جميعاً. فهو متهم بارتكاب قتل جماعي ممنهج، يستخدم العنف لتحقيق مكاسب سياسية، يمتلك أسلحة متقدمة عبر شبكات خارجية، ويسيطر على تجارة ذهب عابرة للحدود تمثل ركيزة تمويل حيوية لأنشطته.
أما البنتاغون، فيرى في الأزمة السودانية بعداً آخر يرتبط بالبحر الأحمر. فالمنطقة تشهد تنافساً حاداً بين القوى الكبرى، ووجود قوة مسلحة خارج إطار الدولة تمتلك مسيّرات وقدرات لوجستية عبر حدود هشّة يمكن أن يخلق ثغرة خطيرة في أحد أهم الممرات البحرية في العالم. ورغم أن الدعم السريع لم يهدد الملاحة مباشرة، إلا أن صعوده في منطقة حساسة ومتصلة بنقاط ارتكاز دولية يثير مخاوف استراتيجية متزايدة.
وفي مواجهة هذه التحديات، تخوض القوات المسلحة السودانية حرباً معقدة ضد قوة تتلقى دعماً خارجياً كبيراً، وتمتلك شبكات تهريب وسلاح لا تتوفر داخل البلاد. لذلك لا توجه واشنطن أي نقد للجيش السوداني أو لمصر، باعتبار أن الوقائع الميدانية تشير بوضوح إلى الطرف الذي يستفيد من الدعم الخارجي ويعيد تشكيل ميزان القوى على الأرض.
ورغم أن قرار تصنيف الدعم السريع يحمل كلفة دبلوماسية، خصوصاً في علاقات واشنطن مع بعض دول الخليج ومع الصين، إلا أن تكلفة عدم اتخاذ القرار تبدو أكبر بكثير. فترك قوة مسلحة ترتكب مجازر وتحاصر المدن وتملك تكنولوجيا عسكرية متقدمة وتموّل نفسها عبر الذهب يمكن أن يخلق نموذجاً جديداً لقوة موازية للدولة تتكرر في ساحات نزاع أخرى.
لقد أصبحت الفاشر — بما جرى فيها — اللحظة التي أدركت فيها واشنطن أن السودان لم يعد أزمة محلية، بل معضلة استراتيجية ذات امتدادات إقليمية ودولية. وفي عالم تتحرك فيه القوة عبر التكنولوجيا والمال والعنف المنظم، لم يعد قرار واشنطن بشأن الدعم السريع مسألة “هل”، بل “متى” و“كيف”.
د. عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في مركز فوكس للأبحاث – السويد
باحث متخصص في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب
