الخميس, أكتوبر 30, 2025

حين يمرض الوطن… ويموت المواطن بصمت بقلم: انتصار فضل الله

في الأزمنة القديمة، كان المرض رسالة من القدر، يُبتلى به الإنسان فيصبر ويحتسب، ويجد في القلوب عزاءً وفي الأيدي دفئًا.
أما اليوم، فقد صار المرض قسوةً اجتماعية، ومرآة لخذلان الدولة لمواطنيها، حتى بات الفقير إذا اشتكى وجعه يخاف أن يُتّهم بالضعف، لا أن يُعامل كمريض يحتاج إلى الدواء.

حين يختنق الوطن بالوجع

يموت الناس هذه الأيام لا لأن الداء استشرى، بل لأن الدواء غاب، ولأن المستشفيات فقدت روحها.

يموت المواطن أمام بوابة الطوارئ المغلقة، أو على سرير متهالك تحرسه أجهزة لا تعمل، وعيون أطباء مرهقين يقاتلون بعلمٍ بلا أدوات، وبضميرٍ بلا معين.

كل شيء في غرف المرض يئن: الجدران، الأسرة، وحتى الصمت الذي يملأ الممرات.

الخرطوم في قبضة الأمراض

وما زال الضنك والملاريا يفتكان بسكان الخرطوم، كأن المدينة نفسها تتأوه تحت وطأة الأمراض.
الأطفال يصرخون في صمت، والآباء يتقاطرون على المستشفيات المزدحمة، وأجهزة الإنقاذ عاجزة عن الاستجابة لكل النداءات.
في الأحياء المكتظة، يصبح كل قطرة مياه راكدة جبهة حرب مع البعوض، وكل نفَس يحمل احتمال المرض.
هنا يتضح أن الخطر ليس في المرض فقط، بل في غياب الوقاية، وتهاون السلطات، وافتقاد المواطن لأدنى سبل الحماية الصحية.

موت الفقراء… خارج النشرات

لا تُذكر أسماؤهم في نشرات الأخبار، ولا يُقام لهم عزاء على شاشات القنوات.
يموتون بهدوء يشبه غيابهم عن كل شيء: عن القرار، عن الرعاية، عن الرحمة.
يموتون لأنهم لم يجدوا ثمن الدواء، أو لأن جرعة منسّقة لم تصل في وقتها،
يموتون لأنّ الاهتمام بالحياة أصبح رفاهيةً في وطنٍ يقدّس الموت أكثر من الكرامة.

المرض ليس في الجسد فقط

إنّ أشدّ الأوبئة فتكًا ليست تلك التي تسكن الدم، بل تلك التي تسكن الضمير.

حين يصبح الفساد سياسة، ويُهمل المريض لأنّ “ميزانية الدواء لم تُجاز”، حين يُعامل المواطن كرقم في إحصائية لا كإنسان حينذاك، يكون المرض الحقيقي في روح الوطن نفسه.

الأمل الأخير

ومع ذلك، يبقى في هذا العدم بصيص ضوء:
طبيبٌ يسهر دون مقابل، ممرضة تمسح العرق عن جبين مجهول، شابّ يتبرع بدمه لإنقاذ غريب.
هؤلاء هم من يمنحون للوطن معنى الحياة، ويثبتون أن النبض لم يمت بعد،
وأنّ الشفاء يبدأ من إنسان يؤمن بأن الرحمة أقوى من الإهمال.
……..
ليس الفقر من يقتلنا، بل اللامبالاة.
وليس القدر من يسلبنا أبناءنا، بل تراخي من جعلوا الصحة هامشًا في دفتر الدولة.
يموت المواطن في وطنٍ مريض، لأنّ صوته لا يُسمع، ودموعه لا تُرى.
لكنّ الذاكرة لا تموت،
وستبقى تكتب على جدار الأيام: “هنا رحلوا لأنّ الدواء لم يصل، لأنّ الرحمة تأخرت، لأنّ الوطن تألم ونام.”

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات