لماذا لا تستفيد دوائر صنع قرار السياسة الخارجية عندنا من هذا الحراك الضخم الذي تشهده ساحة السياسة الدولية، واستلهام العبر مما يجري من أحداث وتطورات مهمة خاصة في منطقة الشرق الأوسط واتجاه واشنطون تحديداََ نحو إعادة تشكيل المشهد فيها لصالح حليفتها إسرائيل بفرض واقع جديد مختلف في كل جوانبه عن الواقع الذي كان سائداََ قرابة الثمانية عقود.
الحرب الإسرائيلية على غزة وتداعياتها الأمنية والسياسية، وتطورات الوضع في سوريا وسقوط نظام الأسد وتشكيل الحكومة الإنتقالية في سوريا برئاسة أحمد الشرع زعيم هيئة تحرير الشام، والدور التركي في هندسة الأوضاع في سوريا لصالحها وما ترتب على ذلك من وضع حزب العمال الكردستاني للسلاح وتحوله للعمل السياسي، وقرار الحكومة اللبنانية حصر سلاح حزب الله بيد القوى الأمنية في خطوة غير مسبوقة، وغيرها من الأحداث الأخرى بالمنطقة والتي تتوج الآن باتفاق غزة للسلام المطبوخ أمريكياََ والذي انتهت المرحلة الأولى فيه، وبدء المرحلة الثانية منه قبل ساعات من الآن.
وما أود الإشارة إليه هنا بخصوص كل ذلك هو أن الإتجاه العام في هذا الحراك وهذه التطورات يتمحور حول هدف كان في الماضي تكتيكياََ، ثم أصبح هدفاََ استراتيجياََ تعمل على تحقيقه الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين وإبنتهما المدللة إسرائيل وهو تفكيك ونزع سلاح الجماعات المسلحة ومن تسميهم بالمنظمات الإرهابية، و بالأمس أكد الرئيس ترمب بعبارات واضحة ضرورة نزع سلاح حماس التي تعتبرها بلاده منظمة إرهابية حتى وإن اضطروا لفعل ذلك بالقوة!!
ولما كانت كل التوقعات تشير إلى أن السودان هو التالي في جدول أعمال ترمب فيما يتعلق بتسوية الأزمات ووقف الحروب حول العالم وما تسميه إدارته بنشر السلام، فإنه من الضروري أن تسارع الحكومة إلى الإستعداد المبكر لهذا الحدث وأن تعكف دوائر صنع القرار على إعداد خطة (هجومية ناعمة) استباقية للتمهيد لمجابهة دبلوماسية هي آتية لا ريب فيها
مع إدارة ترمب لأن هناك فجوة كبيرة ما بين رؤية واشنطون، ورؤية السودان بشأن كيفية إنهاء الحرب.
وفي هذا الصدد ينبغي أن تستغل الحكومة الأجواء السائدة الآن التي كما قلت تتجه نحو تفكيك الجماعات والميليشيات المسلحة ونزع سلاحها، وذلك بأن تدرج بند المطالبة بتفكيك ونزع سلاح ميليشيا الدعم السريع باعتبارها منظمة إرهابية كمدخل صحيح لأي صيغة تسوية محتملة قد تطرحها إدارة ترمب أو تحاول فرضها أسوة باتفاق غزة للسلام.
وبطبيعة الحال فإن إثبات صفة الإرهاب على ميليشيا الجنجويد أمر سهل ولدى الحكومة ملف كامل متماسك مؤلف من مئات الشواهد والأدلة الكافية على أن ميليشيا الدعم السريع منظمة إرهابية، والعالم كله تابع ما ارتكبته هذه الميليشيا من انتهاكات وجرائم وما تزال ترتكبها منذ اليوم الأول من تمردها قبل عامين ونصف العام وحتى يوم الله هذا وبوتيرة متصاعدة.
مطلب تفكيك ميليشيا الدعم السريع الإرهابية ونزع سلاحها يجب أن يتصدر أجندة الحكومة، إن هي قبلت بالاستجابة للمساعي الأمريكية لوقف الحرب في حال أصبح ذلك أمراََ حتمياََ لا فكاك منه، وتكون بذلك في وضع الإستعداد للحرب والسلام، فالوضع على الميدان الآن يشير بوضوح إلى تقدم الجيش والقوات المساندة له على الميليشيا الإرهابية التي هي في أشد حالات الضعف والشتات والرخاوة، والجيش في ذروة منعته وقوته وتماسكه وثباته بما يمكنه من سحق الميليشيا الإرهابية عنوة بما يصرف عن البلاد شبح تفاوض هو الآن يخيم على الأجواء ويحوم في الأرجاء.
يجب أن ينتقل صانع قرار السياسة الخارجية من مربع الدفاع ورد الفعل، إلى مربع الهجوم والمبادرة وهندسة المشهد لخدمة مصالح السودان وجعل كل الخيارات ممكنة.