ما الذي يدعو لوجود القوات المشتركة داخل المدن والولايات الآمنة؟ ، سؤال بات يفرض نفسه بقوة مع تصاعد موجة التفلتات الأمنية التي تشهدها بعض الولايات ، من قبل منسوبي هذه القوة ، والتي كان آخرها بالأمس حادثة مستشفى عطبرة المأساوية ، حين تحوّل مكان يُفترض أن يكون للشفاء والعلاج إلى ساحة دم وذعر ، راح ضحيته عدد من الأبرياء ، في مشهد صادم يعكس حجم الخلل الأمني الذي صنعته هذه القوات داخل المدن.
من المؤسف أن تتحول القوات المشتركة ، التي تتبع للحركات الموقعة على اتفاق جوبا ، إلى مهدد بدلاً من تحقيق الأمن وبسط الاستقرار ، بل تحولت إلى مصدر تهديد مباشر للمواطنين ، وإلى عنوان للتفلت والفوضى ، لم تعد هذه الحوادث معزولة أو فردية ، بل أصبحت سلوكاً متكرراً يشي بفقدان السيطرة وغياب الانضباط ، مما يستوجب وقفة جادة من الجهات المسؤولة.
حادثة عطبرة لم تكن الأولى ، ولن تكون الأخيرة ما لم يُتخذ موقف حاسم بشأن أماكن تواجد هذه القوات ، فقد شهدت مدن أخرى خلال الأشهر الماضية اشتباكات مماثلة بين أفراد من القوات المشتركة والمدنيين في الشوارع والمستشفيات والأسواق ، وكلها تؤكد أن هذه القوات فقدت الهدف الذي وجدت من أجله ، وتحولت إلى عبء أمني بدلاً من أن تكون سنداً للدولة ومؤسساتها.
الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا مطالَبة اليوم بتحمل مسؤولياتها الأخلاقية والسياسية ، وإعادة انتشار قواتها إلى مناطق العمليات في كردفان ودارفور ، حيث تدور معارك ضارية وتتعاظم معاناة المدنيين في الفاشر التي ترزح تحت حصار خانق ، فبدلاً من التمركز داخل المدن الآمنة واستعراض السلاح بين المدنيين ، كان الأجدر بها أن تسهم في فك الحصار عن الفاشر ، وأن توجه طاقتها إلى مواجهة من يهدد وحدة السودان لا من يبحث عن العلاج في مستشفياته.
حتى لا تتحول القوات المشتركة التابعة للحركات المسلحة إلى دعم سريع النسخة الثانية ، يجب وضع النقاط على الحروف قبل أن يسبق السيف العزل ، وهذا يستلزم إجراءات واضحة ومُلزِمة ، تفريع الألوية والوحدات عن الولاءات المناطقية إلى سلاسل قيادية موثقة ، سحب الأذرع المسلحة من المرافق المدنية وتحديد نقاط انتشار ثابتة خارج المدن ، فرض برامج تأهيل تدريبية مكثفة توازي معايير الجيش والشرطة ، وإقامة آلية رقابية تراقب الانضباط وتحقق في الخروقات فوراً ، كما ينبغي أن تُحدد مواعيد زمنية لإعادة الانتشار مع عقوبات واضحة على المخالفين ، إضافة إلى إشراك المجتمع المدني والمجالس المحلية في مراقبة تنفيذ هذه الترتيبات لضمان عدم إفلات المظاهر المسلحة من أي مساءلة ، والأهم من كل ذلك الإسراع في عملية دمج هذه القوات ، وتسريح من لم تنطبق عليه معايير إعادة الدمج.
إن تكرار الحوادث الأمنية داخل المدن يؤكد أن أفراد هذه القوات لم يتلقوا التدريب الكافي الذي يؤهلهم للتعامل بانضباط ومسؤولية ، فهم ليسوا بمستوى الاحترافية والانضباط الذي تتميز به القوات النظامية من جيش وشرطة وأمن ، مما يجعل وجودهم داخل المدن خطراً حقيقياً على المجتمع.
لقد آن الأوان لأن تعيد الدولة نظرها في انتشار هذه القوات ، وأن تُسحب من داخل المدن والمناطق الآمنة فوراً ، فوجودها بهذا الشكل لا يحقق أمناً ولا استقراراً ، بل يزيد من الاحتقان ويفتح الباب أمام المزيد من الدماء.
إن الأمن لا يُصنع بالانتشار العشوائي للسلاح ، ولا بحمل البندقية في الطرقات ، بل بالانضباط ، واحترام القانون ، وتوحيد القوة المسلحة تحت راية الجيش الواحد ، وما لم تُحسم هذه الفوضى ، فسنظل نحصد نتائجها كل يوم في أرواح الأبرياء ودماء المدنيين ، حتى يغدو الأمن مجرد ذكرى في وطن أنهكته البنادق… لنا عودة.