الأحد, أكتوبر 5, 2025
الرئيسيةمقالاتوجه الحقيقة ...

وجه الحقيقة القصر الجمهوري في عطاء..! بقلم/ إبراهيم شقلاوي

قبل الخوض في مقالنا، لا بد من توجيه اعتذار مستحق للقراء الكرام عن الانقطاع في الفترة الماضية، ومع خالص الشكر لكل من تواصل أو تفقدنا أو دعا لنا بالعافية، نعود لمواصلة فتح أحد أخطر الملفات الاستراتيجية في بلادنا : ملف الكهرباء، الذي لا يُختزل في مجرد انقطاع التيار أو تعطل المحطات، بل يُجسّد – في هذا التوقيت بالذات – جوهر الأزمة الوطنية بين مشروع الدولة التي تحاول النهوض والحرب التي تكاد تبتلع المستقبل.

في المقال السابق المعنون بـ”كهرباء السودان: مأزق التخريب وسوء الإدارة”، فتحنا نافذة على ملف قطاع الطاقة، وتلقينا إثره كمًّا كبيرًا من المراسلات، كان أغلبها يُسلّط الضوء على أهمية الخطة المعلنة لتطوير الكهرباء، تلك الخطة التي تمثل أحد أعمدة إعادة الإعمار الوطني، وشرطًا أساسيًا لعودة النازحين واستئناف النشاط الصناعي والإنتاجي في البلاد.

لكن وفي ظل تلك المراسلات، لا بد من التوقف عند توضيح مهم وردنا من المهندس أسامة عبد الله أبو الحسن، مدير محطة توليد مروي، الذي عقّب مشكورًا على ما ورد حول تكرار خروج سد مروي من الخدمة، مبينًا أن السد يعمل بكفاءة عالية، وأن انقطاع التيار في بعض الحالات يعود إلى أنظمة الحماية التي تُفعّل عند خروج المحولات الرئيسية – كما حدث مؤخرًا في حالة محول المرخيات – وذلك لحماية التوربينات من الأعطال الكارثية الناتجة عن ارتفاع السرعة.

هذا التوضيح وإن كان مهمًا، إلا أن البعد الأهم هو الصمت الحكومي حيال الخطة الاستراتيجية للكهرباء، التي لا تزال غير معلنة، ما يجعلها أشبه بخطة تنموية سرّية لا يعلم عنها الرأي العام شيئًا سوى بعض التصريحات، في حين أن الأمر يستدعي مؤتمرًا صحفيًا يبعث الطمأنينة في نفوس السودانيين، ويُظهر كيف يفكر القائمون على هذا القطاع وكيف ينظرون إلى المستقبل.

السودان يقف اليوم على أعتاب تحول تاريخي في قطاع الكهرباء. فالحكومة – بحسب ما تسرّب من مصادر رسمية – وضعت استراتيجية وطنية تمتد حتى عام 2035، تهدف إلى تحقيق نقلة نوعية في بنية قطاع الكهرباء، وضمان وصولها إلى جميع المواطنين في المدن والأرياف على حد سواء، برفع نسبة التغطية السكانية وزيادة القدرة الإنتاجية للشبكة القومية وتوسيع نطاق المحطات.

كما تشمل الاستراتيجية تنويع مصادر الطاقة عبر التوليد المائي والطاقة الشمسية وطاقة الرياح وربما النووية، وتحسين الكفاءة وخفض الفاقد الكهربائي بما يضمن استدامة الخدمة.

لكن تلك الخطط الطموحة، على أهميتها، تصطدم بواقع بالغ القسوة، إذ تكشف تقارير ميدانية أن خسائر قطاع الكهرباء تجاوزت مرحلة التدهور إلى مرحلة الانهيار . ففي الخرطوم وحدها، قُدّرت الخسائر المباشرة بأكثر من ثلاثة مليارات دولار. تعرضت محطات رئيسية مثل قري، وبحري، وجبل أولياء لتلف كامل بنسبة تصل إلى 100%، إضافة إلى دمار أكثر من 150 ألف كيلومتر من الخطوط، ونهب 15 ألف محول كهربائي تبلغ قيمة الواحد منها نحو 46 ألف دولار، وسرقة آلاف الأطنان من الكابلات، إلى جانب ضياع المخزون الاستراتيجي من المعدات داخل المستودعات، خاصة في العاصمة التي خضعت لعمليات نهب ممنهج من قبل مليشيا الدعم السريع خلال الحرب.

الخسارة لم تكن فقط في البنية التحتية، بل في القدرة الإنتاجية نفسها، حيث أدى التدمير وسرقة 20 ألف برميل من زيوت المحولات إلى فقدان أكثر من ألف ميغاواط من الطاقة، أي ما يعادل 35% من مجمل الإنتاج الكهربائي في السودان، وهو ما انعكس مباشرة على حياة المواطنين وأدى إلى شلل واسع في القطاعات الحيوية.

في القطاع الصناعي، توقفت نحو 80% من المصانع في الخرطوم، خصوصًا في الصناعات الغذائية، كما تعرضت العديد من المصانع للتجريف الكامل ونهبت ماكيناتها لاستخراج النحاس، مما زاد من معدلات البطالة وعمّق أزمة السلع وارتفاع الأسعار. وفي الريف، انهارت مشاريع الزراعة المروية المعتمدة على الكهرباء، خاصة في ولايتي الشمالية ونهر النيل، بسبب انعدام الطاقة اللازمة للري، وهو ما يهدد الموسم الزراعي ويؤثر على الميزان التجاري نتيجة انخفاض الصادرات الزراعية.

أما في قطاع الخدمات، فقد تعطلت محطات المياه وارتفعت تكاليف صيانتها، مما زاد من معاناة المواطنين. كما تضررت المستشفيات بنسبة تصل إلى 90% بسبب فقدان خطوط الكهرباء الساخنة وتكرار القطوعات، مما وضع النظام الصحي على حافة الانهيار.

الحديث عن الكهرباء ، أصبح قضية سياسية بامتياز تتعلق بسيادة الدولة وأمنها القومي وحقها في البقاء. فعندما يُفقد هذا القطاع الحيوي بفعل الحرب وسوء الإدارة، ويُترك دون رؤية متكاملة وشفافية لإعادة بنائه، تتحول أزمة الكهرباء إلى مرآة لانهيار الدولة وغياب التخطيط وعجز القرار السياسي عن تلبية الحد الأدنى من متطلبات المجتمع.

وقد تكون هناك حاجة عاجلة لإجراءات من قبيل إعفاء مستلزمات الطاقة الشمسية من الجمارك وتسهيل تمويلها، لكن الأهم هو بلورة استراتيجية وطنية واضحة و معلنة، وخاضعة للرقابة، تقوم على ترتيب الأولويات بدءًا بإعادة تأهيل المحطات الكبرى وخطوط الربط، مرورًا بإعادة بناء المخزون الاستراتيجي من المعدات، وانتهاءً بإرساء قوانين وسياسات جديدة تحكم هذا القطاع .

لا يمكن الاستمرار في الإنكار أو التقليل من فداحة ما حدث. فقد تعرّض قطاع الكهرباء في السودان لضربة عنيفة لم تصب المحطات فقط، بل أصابت القلب النابض للاقتصاد الوطني، وقوّضت ما تبقى من قدرة الدولة على تقديم الخدمات وزادت من معاناة المواطن في حياته اليومية.

لذلك فإن إعادة بناء هذا القطاع ليست مسؤولية وزارة أو شركة، بل مسؤولية دولة بأكملها، ويجب أن تُدرج ضمن صميم أي مشروع وطني لإعادة الإعمار.

فالتحديات التي تواجه هذا القطاع عميقة ومتعددة، أبرزها التمويل في ظل العجز المالي وتراجع الدعم الدولي، ما يجعل خيار نظام “BOT” (البناء والتشغيل والتحويل) من أنسب الخيارات لهذه المرحلة، بشرط جاهزية الدولة مؤسسيًا وتفاوضيًا. كما أن استمرار التعويل على المحطات الحرارية يتطلب انتظامًا في توفير الوقود، وهو ما يطرح إشكالات لوجستية وسياسية، يضاف إليها تحدي البيروقراطية وسوء الإدارة في غياب الشفافية وضعف المساءلة، والتدخلات السياسية في هذا القطاع خلال الفترة التي سبقت الحرب .

الفرصة لا تزال سانحة أمام السودان ليصبح مصدرًا للطاقة على المستوى الإقليمي، خاصة في ظل الطلب المتزايد وامتلاكه للبنية المائية اللازمة لتوليد الكهرباء، لكن ذلك رهين بقدرة الدولة على إدارة الملف بحكمة، والاستفادة من علاقاتها مع قوى كبرى مثل الصين وروسيا، وكذلك دول الخليج التي سبق أن دعمت هذا القطاع.

إن لم نسارع بالكشف عن تفاصيل خطة الدولة لإنقاذ قطاع الكهرباء والعمل على تنفيذها، فقد نفاجأ قريبًا بطرح مرافق خدمية كبرى في عطاءات لتوفير الكهرباء لها، ولن تكون حينها المستشفيات أو ديوان الحكم الاتحادي أو المطار أو حتى القصر الجمهوري في مأمن من هذا المصير.

إن الخطة الاستراتيجية للكهرباء في السودان بحسب #وجه_الحقيقة لا يجب أن تبقى حبيسة أدراج المؤسسات أو رهينة للبيانات الفنية، بل يجب أن تتحول إلى مشروع وطني جامع يُطرح للنقاش المجتمعي، وتُخصص له منصة إعلامية تتابع مراحل تنفيذه بشفافية. فالكهرباء، في سياقنا السوداني، ليست مجرد خدمة، بل هي شريان الدولة ووسيلتها لاستعادة أمنها وتحقيق السلام الاجتماعي وإطلاق النهضة الاقتصادية من جديد.

دمتم بخير وعافية.
الأحد 5 أكتوبر 2025م Shglawi55@gmail.com

مقالات ذات صلة

الأكثر قراءة

احدث التعليقات