لا يمكن لأي أمة تتطلع إلى النهوض أن تظل أسيرة عقلية التنفيذ العابر، أو أن تكتفي بردود الأفعال الآنية التي لا تتجاوز إخماد الحريق عند اشتعاله. هذه سياسة عرجاء، تسير بخطى متثاقلة لا تقود إلى بناء دولة راسخة، ولا تُسمن ولا تُغني من جوع. والسودان، وهو يتهيأ لكتابة صفحة جديدة في تاريخه، أحوج ما يكون إلى عقول مفكرة، وأدمغة استراتيجية تصوغ ملامح المستقبل بوعي بعيد المدى، لا إلى موظفين يسيرون وفق “مطلوب منفذ” بلا رؤية ولا إبداع.
الوزارات المفصلية، وعلى رأسها الصناعة والزراعة، لا يجوز أن تُدار بعقلية الماضي أو بعشوائية الحاضر. فالسودان بلدٌ حباه الله بموارد زراعية وصناعية لا تنضب، لكنه ظل – ولعقود – يتعثر بين ضعف التخطيط وتشتت الرؤى. المطلوب اليوم ليس مجرد خطط إسعافية، بل خارطة استراتيجية كبرى، تقوم على رسم العلاقات الاقتصادية والسياسية وفق مصالح عليا مدروسة، تفتح أبواب الفرص وتعالج المهددات قبل وقوعها.
إن التنوع الثقافي والاجتماعي في السودان، الذي طالما استُخدم ذريعة للفرقة والاحتراب، ينبغي أن يتحول إلى قوة دفع موجبة، وإلى رافعة للتنمية والنهضة. فالتباين إذا أُحسن استثماره يفتح آفاقاً للتكامل، ويثري التجارب، ويعمق الانتماء الوطني. ومعه يمكن للشباب – بقدراتهم الطموحة وإبداعاتهم المتجددة – أن يكونوا وقود التحول وبناة الغد.
لسنا بحاجة إلى شعارات فضفاضة، ولا إلى تكرار الخطاب المألوف. نحن بحاجة إلى ثورة تفكير، تُخرج الوزارات من أسر الروتين إلى رحابة الابتكار، ومن دائرة التسيير إلى فضاء التخطيط الاستراتيجي المستدام. دولة لا تقرأ مستقبلها بعيون المفكرين والاستراتيجيين، إنما تكتب بيدها شهادة عجزها.
ولعل الدرس الأهم أن بناء السودان الجديد يبدأ من العقول قبل أن يبدأ من المشروعات. فإذا ما اجتمعت الرؤية العميقة مع التخطيط السليم والإرادة السياسية الصادقة، صار المستقبل واعداً، وصار السودان قادراً على أن يقف حيث يجب أن يقف: في موقع الريادة، لا على هامش التاريخ.
فكم عدد الافدنة البور الصالحة للزراعة ؟ وكم عدد مكعبات المياه العذبة الصالحة للحياة ؟ وكم عدد أطنان الذهب المستترة تحت الأرض ؟ وكم عدد ثروتنا الحيوانية والسمكية في البوادي والحضر.. فكم.. وكم.. وكم..
السودان بين مطلوب ومنفذ الي متى؟؟ .. بقلم د. إسماعيل الحكيم..
