بسم الله الرحمن الرحيم…وصل الله على أشرف خلقه وعلى آله وصحبه وسلم…..
طلب مني بعض الإخوة الكرام أن أدلي بدلوي في معين الكتابة عن برام في السبعينات من القرن الماضي ، حيث كنت شاهداً على بعض المواقف والاحوال. وأحسبُني آخر من يكتب عن برام لقدومي لها في منتصف السبعينات ومغادرتي لها في أوائل الثمانينيات.. ولكني أحاول.. ذكرت من قبل أن برام في ذلك الزمن الراقي الجميل يقود حركتها المعلمون في أغلب الأحيان. ففي السياسة وتنظيم الإتحاد الإشتراكي تجد الإخوة أبو حوه ، دوه، إسماعيل ابراهيم ، بشير مدني ، دلينا ، حسن الامين ، وقبلهم الإخوة علي جابر ، حامد حسب الله ، محمد سعد وغيرهم . وفي مجال الرياضة تجد الإخوة جعفر خليفة ، سراج الدين الغالي ، محمد عيسى المختار ، ضوء البيت صالح ، والهادي عباس وغيرهم . وفي الإجتماعيات تجد الإخوة إبراهيم سعد ، ابو زينب ، آدم إبراهيم ، إبراهيم عبد الواحد ، الهادي بيتو ، آدم قرقر ، والأمين علي الغالي وغيرهم .. هكذا في كلِّ المجالات تجد الإخوة المعلمين والموظفين والتجار وغيرهم في تواصل ٍحميم ومودةٍ دائمة.. وعذراً لمن لم يسعهم الذكر .. فأين نحن من هذا الصخب ؟ وحينما أقول نحن أقصد بها الأخ العزيز النور اسماعيل والأخ العزيز شروفة محمد شروفة وشخصي الضعيف…. فنحن كنا ضمن المجموعات في كلٌِ شيءٍ إلا السياسة.. وقد حبانا الله ثلاثتنا ومعنا الأخ محمد عيسى المختار بحبِّ شيءٍ عجيب …كنا نحب (الضالة) ومنسوبي الضالة.. ووجدنا فيها متعةً حقيقية ،وصرنا من كبار مشجعي لعبة الضالة وأهلها . وقد كان (اللعيبة) يفتقدوننا إذا غبنا. ومعلومٌ أن بعض أهل الضالة يتلفظون بكلماتٍ نابيةٍ وغير لائقة. وكان وجودنا معهم يَحُدُّ من التلفظَ بهذه الكلمات ، حتى تجدَ أحدهم حينما يريد التلفظَ ببعض بهذه الكلمات يقول : (والله لولا وجود المربين والأساتذة معنا لأسمعتكم…….)
الضالة لعبةٌ ذكيةٌ وهي لعبة ذهنية من الدرجة الأولى لا مثيل لها إلا الشطرنج. تعتمد على قدراتِ الفرد الذهنية وسرعةِ البديهة ، وهي ليست كالكتشينة التي تعتمد دائماً على الحظ ثم قدرات الفرد ثانياً… ولو أن لي حظاً بلقاء أهل الصين لطلبتُ منهم الإهتمام بأمر الضالة ووضعها في صناديقٍ كحال الشطرنج ، ثم تُدَرَّس في معاهد للمنافسات العالمية.فهي ليست أقل شئناً من الشطرنج وهي مسألةٌ حسابية دقيقة ..فسبحان الله رغم ذلك تجدُ أحياناً من لا يفرق بين (الواو الضكر وبه ام عنيقرة) تجده يقود المعركةَ فيها بِكلِّ إقتدار …
ومن الصور التي لا انساها في ذلك اليوم الذي كان مقداره خمسُ ساعاتٍ ،من الساعة الثانية عشر ظهرا حتى الخامسة مساء .
إحتشد النَّاسُ تحت (نيمةٍ) قرب دكان الأخ العزيز أبو كفاتير واذكر لكم بعض ملامح المشاركين في الجولات…
1/ الأخ علي ابوندقيل وهو رجلٌ قصيرُ القامة نحيل الجسم،ولكنه يتمتع بحبٍ شديدٍ للضالة ويقوم دائماً بجمع (الحطب).. كانت الضالة في السابق تُلعبُ بالحطب ولكنها بعد ذلك أُستبدلت بالحجارة والطوب.. ولكن النَّاسَ لايزالون يسمونها (حطب ضالة)
2/ الأخ العزيز الغالي محمد حاج آدم ( الريس) فهو رجلٌ وقورٌ يملأُ الإيمانُ كلَّ جنباته ، ولا يعلق كثيراً كما يفعل الآخرون…
3/ الرجلُ الأنيقُ في طلعتهِ وهندامهِ ولسانهِ عبدالله بشر (الأمير زهير) لا ادري من اين له بهذه التسمية ولكنه أميرٌ بحق ، فهو مطبوعٌ على تذوق الشعر ويحب الشعرَ الفصيح وأحياناً يُنشدَه..
4/ العم محمد آدم (التنقلي) وهو رجلٌ اتفقتَ معه أو اختلفتَ ، رجلٌ فارسٌ من فرسانِ برام ، رجلٌ شجاعٌ … يتمتع بعينين غائرتين بعض الشي ولكن فيهما بريقٌ عجيبٌ … فهو حينما ينظرُ إليك لاتدري اهو مبسوطٌ منك ام هو يتوعدك..!!!!!…..
5/ أخيراً وليس آخراً، الرجلُ الذي يمتلك ناصية الُّلعبة والتي لايجاريه فيها أحدٌ إلا بِشقِ النفسِ ….. هو الأخ العزيز فتحي (قرقمص), وهو بقدر فنه وأدائه المتميز في الُّلعبة ورغمِ علمهِ بأن كلّ ذي نعمةٍ محسودٌ إلاٌ أنه دائماً يستفز الآخرين….. وهي صفةٌ لا تشبه الأبطال….
جمع ابو ندقيل الحطب وأخذنا (النور وشروفة وشخصي) اماكننا في الجلسة الدائرية. وأخذَ كلُّ من اللاعبين موقعه… وهنا لابد لجامع الحطب أن يبدأ الجولة مع المنتصر بالأمس وهو فتحي قرقمص . لم يأخذ قرقمص وقتاً طويلاً حتى أوصل ابوندقيل خمسةَ هزائم متتالية، فبدأ يستفزهُ (اديك فرصة تغلبني؟) ، فاستشاط ابوندقيل (وكاد أن يلدغه ) ولكنه جمع كلَّ قواهُ العقلية ولكن محدوديةَ القدرةِ في الإبداع لم تمكنه من الفوز حتى الجولة السابعة . فبقدرةِ قادرٍ فاز فيها (علي ابوندقيل)….. واصلح جلسته وطلب من الحاضرين (سفة) . ووضع السفة في فمه وكان حالهُ أشبهَ بحاطبِ ليلٍ …. وسارت الأمورُ، ولم يدم الوقت طويلاً حتى حسم قرقمص الُّلعبة وفاز بها . وزوجه (بكراً) حسب قانون الُّلعبة… وأنا اسألكم بالله لماذا حينما يُهزمُ أحدُهم ب(12) جولة يزوَّجُ بنتاً؟ من أتى بهذه الفكرة ؟ هل هي مكافئةٌ ام عقابٌ؟ . وخرج ابوندقيل ليتف السفة وهو يردد ( الناس ما بخلوك) وضاع مكانه الذي يجلس عليه ، فقد سده الآخرون فأصبح من الواقفين.
ثم جاء دورُ محمد حاج آدم (الريس) وبالطبع أنا مشجعهُ الاول وكذلك بعضُ الإخوة . اما النور اسماعيل فهو مشجعُ ( الأمير زهير) دون منازعٍ … وشروفة يشجعُ الَّلعبةَ الحلوة … وسارت الأمور حتى الجولة الرابعة وقرقمص يتسيد الموقف ،وقتها انبرى له الريس بعد أن نظرَ إليه نظرةً لم اجدُ لها تفسيراً ولم ينبس ببنت شفه ، وأصلحَ جلستَهُ وأخذَ بزِمامِ الأمور وبدأت انتصاراتُه تترى حتى وصل السابعةَ، والنَّاسُ معي يشجعونه ولكن إنغلبٕ عليه ظهرُ المِجن ، ورفع قرقمص رايةَ الانتصارات حتى الجولة (12) وخرج الريس خروجٌ الأبطال
ثم حلَّ دورُ الأمير زهير (عبدالله بشر), وهنا صاح النور (الأمير زهير كن واثقاً من نفسك وابلي بلاءاً حسناً)فهزَّ الأمير رئسه. وبدأت الُّلعبة ..
والأميرُ زهير هو عكسُ أطباءِ الكون الذين يضبطون أعصابَهم ويكتمون أنفاسَهم وقت إجراء العمليات ويكونُ أحدُهم أهدأ مايكونُ حتى تتم العمليةُ بنجاحٍ.. فهو ما أن يدخل الحلبة ويتسلم الحطب حتى ينفعل كُلُّ عضوٍ في جسدهِ ، ويظهر الإنفعالُ في يديه وفي تقاسيم وجهه وتعرقُ أنفُهُ ويبينُ لك أنه في معركةٍ حقيقية … وتسير مجرياتُ الٌُلعبة بفوز قرقمص في الجولة الأولى والثانية، وهنا يزدادُ إنفعالُ الأمير زهير ويعدِّل من جلسته وينظر يمنةً ويسرة ثم ينتفض فيُلحِقُ الهزيمةَ الأولى والثانية والثالثة بخصمهِ.. وهنا يُنشدُ بصوتٍ واضحٍ جميل:_ أمرتُهم أمْرِي بمنعرجِ الِّلواء فلم يستبينوا الرُشْدَ إلاّضُحى الغَدِ ويصيحُ النور إسماعيل: ينصركَ اللهُ يا أمير زهير… والأمير زهير تهتزُ كلُ أوصالهِ ويصولُ ويجول محققاً الإنتصارات حتى وصل التاسعة. ولكن قرقمص ينظر إليه شذرا. ويقول له:(مستجد نعمة) . ويهب قرقمص ويجني النصر الجولة تلو الأخرى حتى يصل إلى النهاية (12) .ويصيح في وجه الأمير زهير.. بلا أمير بلا غفير …. قوم بس … والأمير زهير يخرج وينشد.. عيون المها بين الرصافة والجسر… جلبنا الهوى من حيث ادري ولا أدري . فلا مها ، ولا رصافة ولا جسر ، فنحن في برام ام طين .. ولكن الشعر يسمو بالأذواق. والنور ينظر إلىَّ هذه المرة ويقول: ( أحشفاً وسوءَ كيلة ؟؟؟) وأنا أردد عليه خاينه !!!!!! . وها قد جاء دورُ التنقلي… فنظر نظرةً في الوجوه ثم رفع كمه الأيمن استعداداً للمعركة وبرم سكينه في ضراعه اليسرى… وبدأت الجولات, وكالعادة حصد قرقمص الأولى والثانية والثالثة. وفي الجولة الرابعة نظر التنقلي للميدان نظرةَ المتفرس المتمرس ، وطعن طعنةً اهتزت لها الجنباتُ ،( ولم يسل العود) بل التفت يمنةً ويسرة ورفع كمه الأيمن وأصلح من وضح سكينه في ضراعه اليسرى ، ثم أخذت التراميمُ تخرج من فيهِ وهو يقلدُ صوت ( التنبل): (دل…دل دل….. دل دل دل)ثم أخذ يضرب النقارة بأصبعيهِ مستعرضاً صوت النقارة …(دز … دز دز …. دز دز دز …….دز) ومع دز الأخيرة نزع العود بصورةٍ دراماتيكية.. أفزعت الجميع وأصبح (يتنبر أو يتنمر) ..وبالله عليكم اسألكم للمرة الثانية أحلى واوفق وأجمل يتنبر ام يتنمر في حالنا تلك؟؟ أصبح يتنبر أنا ول آمنة، أنا ول آمنة.. والنَّاسُ من حوله يشجعونه حتى نهاية الجولة لصالحه.. وهكذا توالت الضرباتُ على قرقمص والنَّاسُ يشجعون التنقلي حتى وصلت النتيجة (11 للتنقلي )و (3 لفتحي قرقمص)…. وهنا غيَّر فتحي من وضعه وأخذ سفه ووصف المشجعين بكلمةٍ غير لائقة… ثم أظهر قدرته وفنه الحقيقي في قيادة مسار المعركة، حتى كادت أن تندثر آمال وأحلام التنقلي ومشجعيه، ووصلت النتيجةُ إلى (11) لكل واحدٍ منهما. وتبقت فقط الجولة الحاسمة.. وهنا كتم التنقلي أنفاسه كتمةً عجيبة ونظر إلى الملعب بتلك العينين المتميزتين ، ورفع كمه الأيمن وبرم سكينه في ضراعه اليسرى. وبدأت الجولةُ الأخيرة…. وبعد ثلاث نقلات طعن التنقلي نفس الطعنة الأولى التي انتصر فيها. وأخذ يتنبر : أنا ول آمنة ، أنا ول آمنة .. وجذب العود جذبةً تشتت معها التراب وهو يترنم وكأني به وهو يسترجع صولاته في سبدو وأبي صلعة، والتي هي أشبه بصولاتِ أبي دجانة في المعارك ….ولحظتها تذكرتُ ترانيمَ ( عوجات) تلك التي تأتيك في عزِّ الليلِ الباردِ القارس, تأتيك من وسط ( مدى السنجاكا) . متقطعةٌ كلماتُها تحملها الرياحٌ الباردة لتبثَ فيك الإحساسَ والشعورَ الجميل لمزيدٍ من النوم ، وكأني بعوجات وهو يردد :_
بحرِّم دَا وبحلل دَا…… بعرف الحلال وللحرام بخته
وين يامريومة أم شعيرة ناعمة…الخلقك جمالك ترى لزول مااده
في الشكر ما بتنبري …………..لينا زي قبلة الصلاة
مريومة الجوهر إنتي الإمام والعوين وراء……فراقك بشوفو لي حار مابقدره.
والسنجاكا يرددون من خلفه بالصوت والصفقة .
وكنت ليلةً وأنا مملوءٌ بذاتِ الإحساسِ والشعور وأنا أتابعُ مع السنجاكا، تذكرت مقولةَ خالد بن الوليد رضي الله عنه ( ماليلةٌ تُزفُ اليَّ فيها عروسٌ أنا لها محب أو أُبشرُ فيها بغلامٍ بأحبَّ عندي من ليلةٍ شديدةِ البردِ في سَريةٍ من المهاجرين أُصبِّحُ بها أعداء الله). (فشتان بين مشرِّقٍ ومغرِّبٍ ) . ( ورحم اللهُ إمرءاً قلبهُ معلقاٌ بالمساجدِ).
والتنقلي يصيح ويتنبر والجمهور يشجع، وقرقمص هاديٌ في ظاهره لكنه يغلي من الداخل حتى وصلت الجولة إلى نهايتها… والنَّاسُ يصفقون ويصيحون : ول آمنة فاز ، ول آمنة انتصر…. ويقومُ قرقمص ويضربُ بكلتي يديهِ على مؤخرة جلابيته لينفضَ منها الغبار، ويُخرجُها داويةً:( النَّاسُ كلهم ………).
والتنقلي هذه المرة يُرخِي كمه الأيمن ويبرمُ سكِّينه في ضراعه اليسرى، ويحملُ عصاهُ وينظرُ للنَّاسِ يمنةً ويسره . والنَّاسُ لايدرون هل هذا شكرٌ لهم ام توعُّد ……. وانفضَّ السَّامرُ، وغداً لناظرهِ قريبٌ….
إخوتي الأفاضل ترحَّمُوا على كلِّ من ورد ذكرُ إسمهِ في هذا السرد وقد غادرنا إلى الدارِ الآخرةِ …. عليهم رحمةُ اللهِ جميعاً ورضوانُهُ وعفَا عنهم وسامحهم جميعاً .. وأدام نعمةَ الصحةِ والهداية لنا ولكم ولمن تبقى منهم …. فقد كان زمناً ليس كبقيةِ الأزمنة …. والسَّلام …
أخوكم ✍🏾 محمد بقادي فضالي ، كوستي
5/9/2025