تنبع أهمية وجود التعايش السلمي وجوداً حقيقياً لا شكلياً التي تعضدد قيمه النبيلة، و وهي تقدم محور النقد الذاتي من أهم الحصون التي تصون مبدأ التعايش والسلم المجتمعي ، حيث إن حصانة النقد الذاتي التي تزدهر في مجتمعات التعايش الحقيقي ستكون لها بمثابة المسار الذي يصفي صحة المجتمع والوطن من تلك الشوائب باستمرار، وبالتالي يصبح نمط التعايش في أي مجتمع هو حصانة مستمرة ومتجددة عبر النقد الذاتي، من الارتداد إلى حضيض الأمراض الاجتماعية المزمنة من قبلية وعرقيه وطائفية لا تبقي ولا تذر. ونهاية القول يعتبر تاج التعايش وحصنه الآمن قيمة المواطنة، بوصفها تعريفاً حصرياً وعمومياً للفرد في الدولة، وهي تقوم على مبدأ المساواة الكاملة بين جميع أفراد الشعب أمام (النظم والقوانين) بعيداً عن أي اعتبار (للقبيلة_ اللون_ العرق_ الطائفة) لأن تفعيل مبدأ المواطنة على النحو الصحيح لياخذ التعايش السلمي المطلوب، النمط الاجتماعي الحاكم لكل العلاقات البينية حيال مختلف مكونات المجتمع في الوطن.
_ المبدأ العام لهذا التعايش لم يعد مقتصر على فئة المتعلمين والمثقفين وحدهم بل ضرورة ملحه وحتمية لحماية مستقبل الآجيال من أخطار دعوات (الكراهية والعنف والإقصاء) على أسس (دينية أو مذهبية) أو عرقية. وهذا يستدعي استنهاض قدرات المجتمعات الإنسانية وتوحيد جهودها لتعزيز مسار التعايش كقيمة إنسانية جامعة تكفل حماية التنوع، وتعزز الحوار والتعاون. ومن هنا، تأتي أهمية العمل على غرس قيمة التعايش في وسائل الإعلام، والأسرة وأماكن العبادة، وفى دور العلم وفى النوادى بزرع قيم المحبه والسلام والتعايش السلمى.
_ نعيش في عالم تتزاحم فيه الأصوات وتتصادم فيه الرؤى وتترابط فيه المصالح، تتجلى من خلاله الحاجة إلى السلم المجتمعي والتعايش السلمى بين المكونات السكانية أكثر من أي وقت مضى لا كترف فكري تتردد المناداة إليه في جلسات (النخب) ولا ككلمة جازبة تعطر منابر الخطب والشعارات بل تمليه ضرورة وجودية تلامس الجوهر المرجو لتعايش السلمي لما له من سكينة النفوس واستقرار الوطن، لأن المجتمع الذي لا يعرف معنى وكينونة السلام الاجتماعي والتعايش السلمى يظل كجسد ينهش فيه السرطان، فالسلم المجتمعي ليس اتفاقاً صامتاً على ألا نختلف، بل هو فن إدارة هذا الاختلاف دون أن يتحول إلى صراع، ودون أن نصنع من الآراء متاريس ومن الكلمات خناجر مسمومة، بل هو إيمان قاطع لا يساوره الشك أن هذا التنوع لا يهدد بقدر ما يثري الحياة بين المجتمعات السكانية، وأن التناغم مهما كان لا يعني التماثل، وأن الأوطان لا تنهض ولا تبنى بيد واحدة، بل بأياد تتصافح رغم التفاوت، وتتعانق رغم التباين، وتكمل بعضها رغم كل تناقض، فالسلم الحقيقي لا يولد من رحم الصمت أو القمع أو التهميش، بل من حضن العدالة والكرامة والوعي.
ولعل جوهر هذا السلم المجتمعي يتجسد في الثقافة، فالثقافةُ بلا أدنى شك تعني رفاً من الكتب ولا مهرجاناً للأناقة الفكرية، بل هي الحصن الداخلي الذي يحول دون الانزلاق نحو الهاوية، هي المصباح الذي ينير طريق الحوارِ في عتمة الاختلاف، هي القاسم الإنساني المشترك بين كلِّ أطياف المجتمع، بها نعرف حدود أنفسنا، وبها نحترم حدود الآخرين، وبها نعيد بناء الجسورِ حين تنكسر، ونرمم ما تهدم من نسيج الوطن حين يمزق.
_ السلم والتعايش السلمى لا يفرض من أعلى ولا يشرع بالقوانين وحدها، بل يصنع في(البيوت المدارس المساجد المقاهي الحواري) فإنه يبدأ من فكرة بسيطة، من نظرة لا تحكم، من كلمة لا تجرح، من يد لا تصفع، من طفل يتعلم احترام المختلف، من أم ترضع أبناءها الحلم لا الحقد، من معلم يزرع في تلاميذه بذور المحبة لا الشك، من إعلامٍ ينقل الواقع لا يحرفه، من فن يرتقي بالوجدان لا يحرض على الكراهية، فالسلم المجتمعي لا يتحقق بمؤتمرات النخبة فقط، بل بتكاتف البسطاء حين يختارون أن يكونوا نوراً لا ناراً، وأن يتركوا في الدرب زهرة لا شظية.
إن السلم المجتمعي والثقافي معاً يشكّلان معزوفة لا تكتمل إلا إن عزفت كلُّ آلة نغمتها في انسجام، فلا صوت يعلو ليلغي الآخر، ولا آلة تنفرد لتهمش البقية، إنها دعوة إلى أن نحيا معاً لا مجرد أن نعيش بجوارِ بعضنا، إلى أن نصغي لا أن نصرخ، إلى أن نرى ما وراء الملامح والملابس واللهجات والآراء، أن نبصر الإنسان أولاً قبل أن نحاكمه باسمه أو انتمائه أو شكله أو فكره.