أن إختلاف النظم السياسية التي مرت على السودان، إذا كانت نظم ديمقراطية أو شمولية للحزب الواحد أو نظم عسكرية و نظم عسكرية مختلطة، هذا الكم من النظم السياسية في قرابة السبعة عقود الماضية له أثر كبير في أختلاط و تغبيش الثقافة و إنتاج الوعي الزائف، و بالضرورة سوف يؤدي إلي إرباك العملية السياسية، و هذا التغبيش مسؤولة عنه الأحزاب السياسية، لأنها تعتبر المؤسسات الوحيدة التي لها علاقة مباشرة بالجماهير، و مطالبة أن تقوم بتثقيفها و توعيتها، و لكن للأسف التغبيش يحدث بفعل مقصود، لأن البعض لا يريد توعية الجماهير إذا كان يهدف إلي استغلالها أو استقطابها.. هذه الحالة تطرح تساؤلات عديدة يجب الكل أن يسهم في الإجابة عليها.. لكي تبدأ عملية إنتاج ثقافة سياسية جديدة تتلاءم مع عملية التحول السياسي المطلوبة: –
1 – هل المؤسسات التابعة للدولة جميعها دون استثناء مسموح لها بالعمل السياسي؟
2 – هل المؤسسات المطلبية و المؤسسات ذات الطبية الإجتماعية و مؤسسات الفئوية و الطلابية و الرياضية و الشبابية و المرأة مسموح لها بالعمل السياسي؟
3 – و أيضا هل المؤسسات الاجتماعية مثل الإدارات الأهلية و الطرق الصوفية و المؤسسات الخدمية مسموح لها بالعمل السياسي؟
4 – إذا كل هذه المؤسسات حسب القانون الذي تتكون بموجبه، يقول يجب أن لا يكون لها دورا سياسيا.. لماذا يغض الطرف عنها و يركز فقط على المؤسسة العسكرية؟
تختلف الإجابة بإختلاف المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها الشخص.. في النظم العسكرية و الشمولية هناك جهة واحدة هي التي تقرر، في شمولية الحزب الواحد أن المسألة غير منضبطة، فالحزب الواحد يستغل مكانيات الدولة لكي يوظف كل المؤسسات التي يعتقد إنها سوف تخدم مصالح الحزب، و تحافظ على بقائه في السلطة.. الحكم العسكري يرفض أية عمل جماهيري خوفا من الثورات و الانتفاضات.. و في النظام الديمقراطي يسمح فقط للأحزاب ممارسة العمل السياسي و كل مواطن أن يمارس السياسة خلال المؤسسات المسموح لها و هي الأحزاب.. و يمنع تماما ممارسة السياسة في مؤسسات الدولة المدنية و العسكرية لأنها مؤسسات مناط بها خدمة الوطن و المواطن بعيدا عن التحزب..
إذا كان الكل يتطلع إلي تحول ديمقراطي يقع عليهم عبء إصلاح مسار الثقافة السياسية و تنقيتها من الشوائب التي تحدث تغييب للعقل.. هناك سؤال مهم إذا كان أغلبية الشعب الذي قاد الثورات و الانتفاضات راغب في الديمقراطية ما هو السبب الذي يجعل المؤسسة العسكرية تدخل في العملية السياسية و تفرض ذاتها لكي تحكم؟ أجاوب على هذا السؤال بعد الإجابة متى حدث خلل تغبيش الوعي و أختلاط المصطلحات؟
عندما حدث صدام بين قيادة مؤتمر الخريجين و المستعمر، و قدم المؤتمر عدد من المطالب، كانت الإدارة الانجليزية ترفض المطالب و ترفض الحديث مع قيادة المؤتمر بحجة أن الوائح التي بموجبها تكون مؤتمر الخريجين لا تسمح له بالعمل السياسي، الأمر الذي أدى إلي تكون الأحزاب السياسية في اربعينييات القرن الماضي لمواجهة المستعمر، و بموجب ذلك تكون ” حزب الأمة و الأحزاب الاتحادية، و الأشقاء، و الجبهة الوطنية لمناهضة المستعمر، و الحزب الجمهوري.. و أصبحت الأحزاب تقوم بهذا الدور باعتبارها مؤسسات سياسية.. أصبح هناك حزبان ” الوطني الاتحادي – و الأمة” لهم أغلبية جماهيرية واسعة.. الشيوعيون أدخلوا التنظيم النقابي العمالي كمساعد لهم في عملية التعبئة و الحشد و الضغط على السلطة.. و الفكرة نفسها مأخوذة من الحزب الشيوعي المصري.ز و معلوم أن الطلاب السودانيين الذين دخلوا في العمل اليساري في مصر هم الذين كونوا الحزب الشيوعي منهم عبد الخالق محجوب و التجاني الطيب و عز الدين على عامر و غيرهم.. من ذلك التاريخ دخلت النقابات كجماعة ضغط مساندة..
أن قانون العمل النقابي لا يسمح للنقابات بالعمل السياسي لأنها مؤسسات مطلبية يقع عليها عبء تطوير العمل و تدريب عناصرها و البحث عن حقوقهم.. بعد انقلاب مايو 1969م كان فاروق أبوعيس وزيرا للعمل غير قانون العمل النقابي لعام 1970 و جعل النقابات تتبع للإتحاد الاشتراكي بهدف أن تكون تحت إشراف المجموعة الحاكمة، و يجردها من العملية السياسية.. عندما جاءت الإنقاذ ذهبت في ذات مسار فاروق إبوعيسى أنها أخضعت النقابات للحزب الحاكم.. في عام 1994م في القاهرة عقدت ندوة عن ” القوى الحديث” تحدث فيها كل من البروف فاروق محمد إبراهيم و أمين مكي مدني و طه إبراهيم جربوع نادوا بتأسيس قوى مدنية مساندة لتقوم بدعم العمل السياسي.. لماذا؟ قالوا لآن الأحزاب ضعيفة و تحتاج إلي تجديد نفسها و أجيال جديدة، لذلك يتطلب نجاح الديمقراطية أن تكون هناك قوى مدنية واعية تعمل على إنتاج ثقافة ديمقراطية..
دخلت المؤسسة العسكرية العمل السياسي عام 1958م بترخيص من “حزب الأمة” و دخلت في مايو 1969م بترخيص من قبل الحزب الشيوعي و مجموعات القوميين العرب.. و في 1989م بترخيص من قبل الجبهة الإسلامية.. و في 2021 بترخيص من قحت الديمقراطي، و كل ذلك يشير إلي ضعف القوى السياسية.. أن حالة ضعف القوى السياسية هي التي تعطي فرص للمؤسسات الأخرى، و التي لا يحق لها العمل السياسي أن تملأ الفراغ.. أنظر كل التجمعات الحزبية تحاول أن تضيف لها مجموعات من التكوينات الفئوية لأنها كأحزاب ليس لها القاعدة التي تمكنها من أداء دورها.. الأمر الذي أدخل الحلبة السياسية العديد من المكونات التي يجب أن تكون بعيدة من العملية السياسية.. علينا أن نجاوب على الأسئلة أفضل من مناكفات لا تخدم العملية السياسية.. نسأل الله حسن البصيرة..