في زحمة الوعود الحكومية وتراكم الأزمات ، يقف الموظف السوداني حائراً ، مشدوداً بين هم المعيشة وضبابية المستقبل ، يعيش أيامه على حافة الاحتمال ، يتنقل بين المكاتب بما تبقى من أمل ، ويحمل على كتفيه أعباء أسرة لا ذنب لها سوى أنها تنتمي إلى وطن أتعبته الحروب وأنهكته السياسات المرتبكة.
لم يعد الراتب الشهري في السودان معياراً لأي توازن معيشي ، بل أصبح أقرب إلى رمز للخذلان ، لا يعبر إلا عن حجم الفجوة بين العمل والكرامة ، لا تكفي هذه الحصة الشهرية التي تسمى راتباً ثمن مواصلات أسبوع ، ولا تقوى على سد رمق طفلٍ يتشبث بأحلام بسيطة ، حليب، قميص مدرسة، وقطعة حلوى.
تبددت مدخرات الكثير من الموظفين في أيام معدودة من الحرب ، ليس بفعل التضخم وحده ، بل بسبب النهب والسلب ، الذي طال البيوت والمؤسسات على يد مليشيات الدعم السريع الإرهابية، لم تبقِ للموظف البسيط ما يدخره أو يحتمي به ، خرج الكثيرون من بيوتهم بما عليهم من ثياب فقط ، وتركوا خلفهم كل شيء الأثاث ، الأجهزة ، الذكريات ، وحتى دفاتر الرواتب القديمة التي لم تعد تساوي شيئاً أمام انفجار الأسعار في الأسواق.
ورغم هذا الواقع المرير ، لا تزال الدولة تطلق وعوداً بزيادة المرتبات ، وعود لا يثق بها أحد ، لأن أي زيادة تُقابلها قفزات جنونية في أسعار السلع الأساسية ، فلا يشعر الموظف منها إلا بمزيد من اللهث خلف سد الرمق ، وإن تسلم أحدهم زيادته، فإن السوق يكون قد التهمها قبل أن تلامس كفه.
اليوم وعلى أعتاب حكومة جديدة يقودها د. كامل إدريس، تبرز قضية الموظف كواحدة من أعقد الملفات وأكثرها إلحاحاً ، حكومة يراد لها أن تمسك بجمر الملفات ، لكنها تبدأ من واقع هش ، ومؤسسات متوقفة أو تعمل بنصف طاقتها ، ورواتب تصرف بنسب متفاوتة ، أو لا تصرف مطلقاً في بعض القطاعات ، والموظف ذلك العمود الفقري الحقيقي للدولة ، لم يعد قادراً على الصبر أكثر.
فما الذي ينتظر الحكومة الجديدة؟ وكيف ستخاطب وجع آلاف الأسر التي تقتات على الكفاف؟ ما مصير من فقد كل شيء بسبب المليشيا، ولا يجد قوت يومه، ولا ثمن تذكرة العودة إلى وظيفته في العاصمة؟ وماذا عن أولئك الذين لا يزالون في مناطق النزوح واالجوء، ينتظرون لا راتباً فقط، بل وعداً بالحياة نفسها؟
ليس من سبيل أمام الدولة إلا مصارحة الناس، واتخاذ قرارات جذرية تُعيد للموظف احترامه ، لا بزيادة رقمية في خانة المرتب ، بل بإصلاح شامل يعيد الثقة ، ويجعل من المرتب أداة للعيش الكريم ، لا شهادة وفاة مؤجلة.
فقد آن للموظف السوداني أن يُعامل لا كرقم في ملف حكومي ، بل كإنسان استحق أن يُصان…لنا عودة