اهتز الضمير الوطني السوداني إثر حادثة مفجعة حينما سقط عشرات الشباب ضحايا لانهيار أرضي في منطقة كرش الفيل التعدينية بشرق السودان ، وهي ليست المأساة الأولى ولن تكون الأخيرة ، ولكنها أكثر من كافية لتدق ناقوس الخطر .. أرواحٌ أُزهقت تحت ركام الطمع العشوائي، وضحايا جُرفوا بفوضى التنقيب بلا قانون، وبلا حماية، وبلا وعي. وهنا لا يجوز أن تمر الكارثة مرور الكرام، فالأمر لا يتعلق بالذهب المدفون في باطن الأرض فحسب ، بل بالأرواح التي ندفنها فوقه، واحدة تلو الأخرى، في صمت رسمي واجتماعي مريب.
لقد آن الأوان لوضع حدٍ لعشوائية التعدين الأهلي، وتوقيفه فورًا إلى حين تقنينه وتنظيمه بشكل شامل. لا بد أن تكون الأرواح أولوية مطلقة، فوق كل ثروة، وفوق كل عائد اقتصادي. الحادثة الأخيرة كشفت عورة الواقع الميداني لهذا النشاط وغياب تام لتنظيمه ، وأبرزت بُعد الدولة عن ميدان يجب أن تفرض فيه حضورها الكامل، بالقانون، وبالمؤسسات، وبالردع، وبالرقابة وقبل هذا وذاك التوعية والتثقيف .
إن ما يحدث في مناطق التعدين التقليدي اليوم هو خليط من المخاطرة والجهل والفوضى. عمال شباب، أغلبهم بلا تدريب ولا توعية، ينقبون في تربة هشة دون خرائط جيولوجية أو أدوات أمان. يغامرون بحياتهم من أجل حفنة من الذهب يستخدمون أدوات تقليدية ، في ظل غياب الحد الأدنى من شروط السلامة وتوفر مقوماتها، فضلاً عن غياب كامل لأجهزة الدفاع المدني. هذا الواقع لا يُعقل ولا يُقبل، ولا يمكن تركه ليحكمه المزاج الشعبي أو منطق “التحصيل بأي ثمن”.
المرحلة تقتضي تشريعات حازمة وملزمة، تُجبر وزارة المعادن والمعدنين التقليديين على الالتزام بالضوابط الهندسية والبيئية والأمنية. لا يكفي إصدار بيانات مواساة بعد كل فاجعة، بل المطلوب الآن هو إعلان خريطة تعدين وطنية واضحة، تُبيّن فيها أنواع التربة، ونسبة الهشاشة، والمناطق عالية الخطورة، ليُمنع التنقيب فيها فورًا أو يُنظّم بشكل صارم. لا ينبغي أن تبقى الجغرافيا الجيولوجية سرًا أو رفاهًا علميًا، بل ضرورة حياتية تسبق أي استثمار.
كذلك، لا بد من إدخال شرطة الدفاع المدني إلى كل مربع تعدين، وأن يكون وجودها جزءًا من أي رخصة تُمنح. فلا يجوز أن تُترك حياة الناس لأهواء المغامرة أو التجريب. كما يتوجب على الدولة والشركات المعنية إطلاق حملات تثقيفية وتدريبية عاجلة للمعدنين الأهليين، تؤسس لثقافة السلامة المهنية وتُعلّمهم أسس التنقيب السليم والتعامل مع التربة المتقلبة.
في هذه اللحظة، المسؤولية لم تعد موزعة، بل متراكمة. الدولة مسؤولة، والوزارة مسؤولة، والشركات مسؤولة، وحتى المجتمعات المحلية لها دور. فالتنقيب ليس جريمة، لكنه يصبح كذلك إذا سُمح له أن يقتل.
نعم الثروات مهمة، والذهب كنزٌ وطني، لكن الإنسان أغلى. فلنحمِه، ولنُقنّن التعدين قبل أن نُدفن تحت ترابه جميعًا، تباعًا، ثم نرثي بعضنا دون أن نمنع المصيبة القادمة. Elhakeem.1973@gmail.com