لم يكن السودان يوماً أرضا قاحلة في خارطة التحول السياسي، فقد تعاقبت عليه الحكومات الديمقراطية، والانقلابات العسكرية، والثورات الشعبية، والتحولات الانتقالية. لكن المفارقة المؤلمة أن كل هذه التغيرات لم تنجح في بناء دولة مستقرة. وكأننا نعيد إنتاج الفشل ذاته بأدوات مختلفة. هنا، لا بد من التوقف قليلاً لنتأمل في عمق المشكلة. فالأزمة ليست في السياسة وحدها، ولا في (الحاكم) كما نتوهم دائماً، بل في طبيعة المجتمع الذي نريد حكمه. السؤال الذي ينبغي أن يطرق أبواب وعينا ليس: كيف نحكم هذا الشعب؟ بل: أيُّ شعبٍ نريد أن نحكم؟ فجوهر الأزمة ليس في طرائق الحكم، بل في ماهية المجتمع ذاته، في بنيته الأخلاقية والمعرفية، في وعيه بذاته وبمصيره.
المجتمع السوداني رغم ثرائه وتنوعه، يظل هشاً بلا أرضية صلبة، بلا عقد اجتماعي يُجمعه، بلا رؤية جامعة للدولة، وبلا تعريف مشترك لهويته التي تتفكك كلما حاولنا الإمساك بها. ولهذا، كلما جاءت نخبة إلى الحكم، مهما كانت خلفيتها، اصطدمت بجدار صلب من التشظي المجتمعي والتعقيد الثقافي. دوماً نتحدث عن الديمقراطية، والعسكر والمدنيين، والمركز والهامش. لكنها نقاشات تفترض وجود مجتمع مستقر، بينما نحن في الواقع أمام بنية اجتماعية مهزوزة، القبيلة فيها لم تعد رابطة محضة تجمع الناس على المودة، بل صارت سلطة ومؤسسة، والطائفية لم تعد انتماءً روحانياً فقط، بل كيانا سياسيا يُرسم به المصير. أما الجهوية، فصارت بوابة للمظلومية والابتزاز، وميداناً لصراع النفوذ. وثمة تمييز لغوي وثقافي يُشعر البعض بالتفوق، ويزرع في آخرين شعوراً بالدونية. والأسوأ من ذلك، أن العنف صار هو اللغة الوحيدة التي نفهمها في حسم خلافاتنا، في غياب تام لثقافة الحوار والتفاهم.
النخبة من تمثل؟ هذا هو السؤال الجوهري، الذي يقف على أعتاب كل نقاشٍ عن التغيير، التي يُفترض بها أن تقود هذا التحوّل؟ كثيراً ما كانت النخبة في عزلةٍ عن جسد المجتمع، تتحدث باسمه، لكنها لا تعكس حقيقته. تعيش في مركز القرار، وتُعيد إنتاجه، بينما تظل الأغلبية هامشية، بعيدة عن المشاركة الحقيقية والفعالة. لهذا، تفشل مشاريع التغيير في امتحان الواقع، فهي لا تنبع من نبض المجتمع، بل تُفرض عليه قسراً. ما نحتاجه اليوم ليس مجرد انتقال سلمي للسلطة، بل إعادة تأسيسٍ عميق للدولة نفسها، تجديد جذري لرؤيتها وأهدافها. نحن في حاجة إلى مواجهة أسئلة طالما تجنبناها، أسئلة مصيرية: هل نريد دولة مركزية، أم فيدرالية تحترم التنوع؟ ما علاقة الدين بالدولة في هذا السياق؟ ما هي اللغة القومية الجامعة التي تجمعنا ولا تفرّقنا؟ كيف نعرّف المواطنة في نسيج متشابك من الأعراق، وألوان الثقافات المتداخلة، وأديانٍ متباينة؟ وكيف نكتب عقدا اجتماعيا جديدا، يُبنى على قواعد الإعتراف المتبادل والاحترام العميق، لا على أهواء الإقصاء والهيمنة؟ إن أي حديث عن إنتقال ديمقراطي حقيقي، دون إصلاح اجتماعي جذري يلامس أعماق البنية المتصدعة، سيظل مجرد سراب يختفي مع أول نسيم واقعي. فالديمقراطية لا تُغرس في تربة لم تُطهّر من جراحها، ولا تزهر في مجتمع يتجاهل ذاكرته المؤلمة، ويغلق عينيه عن حقائق ماضيه الجريح. إنها دعوة لإعادة قراءة الذات الجماعية، والتصالح مع الماضي، لنخلق من رماد الألم أرضاً خصبة لحياة جديدة، تُزهر فيها قيم الحرية والعدالة والمساواة.
الخلاص لا يُولد من الإنكار، بل من الاعتراف الصادق بجراح التاريخ، لا من طمسها أو التهرّب منها. من المجازر التي صمتت عنها الكلمات، إلى التهميش الذي صار قانوناً مكتوباً، ومن إقصاء الثقافات إلى إنكار الحقّ الأصيل في الاختلاف. إن طريق الشفاء يبدأ من مواجهة الذات، من مساءلة الذاكرة، ومن تسمية الأشياء بأسمائها مهما كانت مرعبة. لا بد من تفكيك سلطة القبيلة والطائفة داخل جسد الدولة، تلك البُنى التي تحولت من روابط أهلية إلى أدوات حكم، تُفسد مؤسسات الوطن وتعيق ميلاده الحديث. ويأتي بعد ذلك إعادة تعريف الهوية السودانية، لا بوصفها قيداً موحداً يُفرض على الجميع،بل كجسد واحد بروحٍ متعددة، تهمس فيه كل فئة بلغتها، وترقص كل طقوسه على إيقاعها، ويصوغ أحلامه من تنوّع لا ينقض وحدته، بل يثريها. أما التعليم، فلا ينبغي أن يُصاغ كأداةٍ لتدجين العقول أو توحيدها قسراً، بل كمرآة نقيّة يرى فيها كل سوداني ذاته بوضوح، دون تشويه أو اختزال، كجسرٍ لفهم التعدد لا وسيلة لإنكاره. وأخيراً، لا تنهض دولة عادلة بلا منابر ومؤسسات ثقافية حرّة، تُتاح فيها الكلمة للفكر، ويُمنح الناس حق الاختلاف والحوار حول مفاهيم الدولة والدين والمجتمع، دون أن تُكمّم أفواههم باسم الانسجام الزائف، أو يُصادر وعيهم باسم الخوف من الفوضى. فالأمم لا تبنى بالقمع، بل بالاعتراف؛ ولا تستقر بالقوة، بل بالتفاهم. والهوية لا تُفرض من أعلى، بل تُولد من عمق التلاقي، حيث يتعانق المختلفون على أرضٍ تشبههم جميعاً.
السودان الممكن ليس صدىً باهتاً لأحلام النخبة المنعزلة في صالوناتها، ولا ظلاً مستورَداً لنماذج ديمقراطيةٍ نبتت على ضفاف أخرى لا تشبه تربتنا. ليس وطناً يُرسم في هوامش الكتب، أو على طاولات المؤتمرات الموسمية، بل كيانٌ حيّ، يولد من مصارحة الذات لا مداوراتها، ومن نظرٍ شجاع في المرآة، لا في الخريطة. هو ذاك الذي يجرؤ على طرح السؤال الوجودي الكبير: من نحن؟ قبل أن يسأل: كيف نحكم أنفسنا؟ وهو لا يطلب إجابةً جاهزة، بل يسير بتواضعٍ إنساني نحو الحقيقة، حاملاً تعقيداته وتنوعه، وأحلامه وإرثه، لا لتمجيد الماضي أو دفنه، بل لتفكيكه وفهمه. الديمقراطية، في هذا الأفق، ليست مهرجان صناديق يُفتح ويُغلق، بل وعيا يُغرس في العقل، وثقافة تُمارَس في تفاصيل الحياة، في المدرسة والمقهى والمزرعة، في الأسرة والحارة والسوق. والعدالة، في جوهرها، ليست فقرة في قانون، بل شعورٌ عميق بالمساواة، وإحساسٌ بأن الفرد ليس رقماً على الهامش، بل خيطٌ حيّ في نسيج الوطن. أما الدولة، فليست سلطةً تُدار من فوق، ولا حكومة تتبدّل في المواقيت، بل عقدٌ اجتماعيٌ حقيقي، ينبثق من إصلاحٍ جذري، لا من زينةٍ سياسية ولا شعارات مؤقتة. فلنبدأ من حيث تُبنى الأوطان حقًا: من الإنسان، من المجتمع، من الأسئلة المؤجّلة التي هربنا منها طويلاً. لا من القشرة، ولا من هندسة البنيان فوق التصدعات، بل من الجذور العميقة، حيث يكمن سر الحياة.
abudafair@hotmail.com